التباين بطرق التفكير.. مابين التطور التقني والتنشئة الاجتماعية وضغوط العمل تصنع شرخاً بين الأجيال..
طرطوس – ثناء عليان:
ليس موضوع التباين بين طرق التفكير المتبعة لدى أبناء الأجيال المختلفة بجديد، إذ طالما طرح تحت عناوين مختلفة مثل: (صراع الأجيال) أو (حوار الأجيال) أو (الفجوة بين الأجيال)، ولكثرة الحديث عن مسألة الأجيال، ولعقودٍ من السنين يشعر المرء أحياناً، وكأنّ هذا السجال مستمر، متسائلاً: هل حقاً هذه الإشكالية موجودة، وإن كانت موجودة فما هو حجم الهوة بين الأجيال، وهل هي اليوم كما كانت بالأمس، هل هذه الهوة إلى ازدياد أم إلى انحسار، أم إن المسالة برمتها لا تعدو أن تكون زيفاً..؟
التجربة تغلب الحكمة
السيدة عفراء، وهي أم, ولديها عدد من الأولاد في مرحلة الشباب، تؤكد أن الاختلاف دائماً موجود عبر التطور البشري، وميزة الخلاف اليوم أنه متزايد بينما كان في البداية بطيئاً، ربطاً بالزمن، ومتغيراته، فاللغة تعني الحوار، وتعد أهم أدوات التفاهم، والاحتكاك بين أفراد المجتمع في جميع ميادين الحياة، والهدف والغاية من الحوار هو التفاهم.
في البداية- تذكر السيدة عفراء- لم يكن هذا الحوار «حواراً»، بل كان يعني، الأوامر، والسلطة المطلقة هي السائدة، ومع التطور، صار هناك ما يسمى بالحوار والذي مرده إلى أن كل شخص يزعم أنه الصح، وكل جيل يرى نفسه أنه الأصح، فالمؤسسات تقوم على الجيل القديم، والجديد، ولا أحد يستطيع أن ينهض دون الآخر، لكن “الجيل الجديد دائماً بحاجة إلى الحراسة والمراقبة” لأن التجربة تغلب الحكمة، ومن الممكن أن هناك شباباً يحصلون على الكثير من المعارف أكثر من الكبار، لكن الزمن تغير، وأثبتت قمة التجربة في حياة الشعوب أن المطلوب من حوار الأجيال هو التواصل، ولكن نظراً لسرعة المتغيرات بفضل العلوم والمعارف يبدو أن الفجوة اتسعت ومرد ذلك إلى أن الشباب يرى ويشاهد ويسمع ويقرأ، والإمكانات التي يملكها للتنفيذ أقل مما يملك الكبار، وتكمن أسرار الحوار من خلال العلاقة المتبادلة بين الطرفين، لذلك يجب أن تتسم العلاقات البشرية بالشراكة، بسبب بروز الحاجة للآخر، وتختم عفراء على الصعيد الشخصي، حتى أتواصل مع أبنائي يجب أن أطلع على كل التطورات التي تحدث من حولي لأستطيع اللحاق بهم.
التطور زاد من الفجوة
أما فؤاد وهو طالب في الجامعة، فتحدث عن علاقته المثالية مع والده رغم أنهما مختلفان جداً في نشاطاتهما، وهواياتهما، فهو مرتبط بوالده لأبعد حد، يقول: رباني منذ كان عمري ستة شهور، والشيء الذي يجمعنا هو المطالعة، فهو يميل إلى السياسة، بينما يصب اهتمامي في كل ما يخص الخيال العلمي والتكنولوجيا، لذلك نادراً ما يكون هناك حوار بيني وبينه، وأكثر وقتي أقضيه على النت، الذي من خلاله كونت عالمي الخاص وعلاقاتي فجيلي هو جيل الكمبيوتر، ربما هذا الذي أبعدنا قليلاً عن الحوار مع من حولنا.
جيل غاضب
من جهته هيثم وهو شاب في مقتبل العمر يذكر أن أزمة جيل الشباب هي أزمة المجتمع عامة ترجع إلى طبيعة بنية المجتمعات العربية واختلاف نظام الإنتاج والعلاقات الاجتماعية وقصور أسلوب العمل فيها، وجيل الشباب حصراً هو جيل غاضب من الأجيال التي سبقته والمجتمع الذي ينتمي إليه يجمع أفراده “خصام” عنيف مع الواقع الذي يعيشون فيه ويسري الغضب في اتجاهاتهم وأحاديثهم وتصرفاتهم، فالصراع الفكري والثقافي بين جيلين متعايشين تحت مظلة ثقافية عامة وإعلامية شاملة، وإيقاع الشباب في هذه المنظومة، بوتيرة أسرع، وتفاعل تبادلي مخيف أحياناً، فدائماً التغير يكون على يدهم وضمن تصوراتهم العامة فيجب التقاسم والإشراك في كل عملية ثقافية وتربوية لتفسير حالات التعلق وعدم الاستقرار التي يحس بها هذا القطاع، ويضيف إن اتساع الفجوة بين الآباء والأبناء كان نتيجة لاتساع مجال حرية الأبناء من ناحية والتقدم العلمي والتكنولوجي من جهة أخرى، وللارتقاء وردم هذه الفجوة وتضييقها يجب الدخول في حوارات دائمة عن احتياجات كل جيل، فالصداقة لها دور كبير في النضج النفسي والاجتماعي للأبناء, ولتمتينها بين جيلين مهما كانت السنون والمعارف بعيدة ومختلفة يجب أن يبتعد الخطاب عن الفوقية ويسود بينهما العلاقات التبادلية.
زمان غير الزمان
هاني يبلغ من العمر ستين سنة، يرى أن الجيل القديم غير الجيل الجديد، وإن المشكلة الأساسية عندما يحاول الجيل القديم أن يفرض على أبنائه ما تعوّد عليه في عهده، فالعادات هي غير التقاليد، لأن العادات تتأثر بالتطور الاجتماعي والاقتصادي والتكنولوجي، أما التقاليد فتظل راسخة كالأخلاق والدين وقضايا الوطن، فإذا ما رغب الجيل القديم أن يجبر الجيل الجديد على العادات نفسها سيؤدي ذلك إلى التصادم، لذلك ينبغي أن يعي الجيل القديم أن المجتمع قد اختلف من حيث آليات التطور الاجتماعي والعلمي، وتفادى هذا التصادم بالإدراك، وأن يكون مرناً متفهماً لهذا التطور, وأن يكون صديقاً لجيل الأبناء متفهماً لقضاياه ومشكلاته، وهناك قول للإمام علي بن أبي طالب: «لا تجبروا أولادكم على أخلاقكم فإنهم خلقوا لزمان غير زمانكم» يعني العادات والتقاليد هي غير القيم، لأنها تتغير بفعل التطور الاجتماعي والاقتصادي والتكنولوجي، فمثلاً المدينة الصغيرة أصبحت كبيرة، والمكان والزمان أصبحا أقرب للوسائل الحديثة، وأصبحت المسافة أقل بفعل التطور، ولكن لا يجب أن يكون هناك تضاد بين الأجيال، بل تفاهم وتفهم وتواصل خاصة من ناحية القيم الثابتة المتمثلة باحترام الآخرين، والدفاع عن الحق والوطن والعدالة.
على حافة جيلين
أما علي وهو على الحافة بين جيلين كما يُعرّف عن نفسه أي بين الشباب والكهولة فهو في بداية الأربعينيات يقول: بحكم وجودي على التخوم أي أنا من المخضرمين إن صح التعبير، ذلك أنني أحمل الكثير من الجيل الذي سبقني كما أحمل الكثير من الجيل الذي يعاصرني، والذي يصغرني، أرى في مسألة الأجيال وهماً كبيراً، على سبيل المثال أنا صديق للكثيرين من الذين تجاوزت أعمارهم الخمسين وهم في وعي فكري يفوق الكثير من وعي شباب العشرين والثلاثين والعكس صحيح أيضاً, لذلك فإن مسألة الأجيال اليوم لا تعدو أن تكون وهماً، وقد أثبتت التجارب زيف هذه المسألة ربما قبل عقد السبعينيات من القرن الماضي، كان يمكن الحديث عن هوة واختلافات بين الأجيال، اليوم على سبيل المثال نصطدم كثيراً بأشخاص من الفترات التي يسمونها ذهبية، فعند البحث نجد أنها ليست أكثر من «تنك»، وهذا يحدث في مسألة الأدب والنهضة الفكرية، فبعد المعاينة نجد أن ما تم الحديث عنه من فترات النهوض وانبعاث وغير ذلك ليس إلا خداعاً.
تغير المستوى الفكري
ويرى حسن، أنه يجب الانتباه عند الخوض في مسألة حوار الأجيال لقضيتين وأخذهما بعين الاعتبار فأولهما: أن الإنسان بحد ذاته يغير من طريقة تفكيره خلال مسيرة حياته تبعاً لتطور خبرته نتيجة صقلها من خلال التجارب التي يتعرض لها، بالإضافة لتغير وعيه نتيجة التغيرات البيولوجية التي يتعرض لها جسده، لا سيما على المستويين العصبي وكذلك الهرموني خلال مراحل عمره المختلفة، والقضية الأخرى، هي تغير المستوى الفكري العام للمجتمع عبر الزمن حسب الظروف التاريخية التي يمر فيها عبر عمره الطويل، كالحروب والمجاعة والاحتلال، وكذلك تغير المستويات الاقتصادية والتطور العلمي وتغير إمكانيات التعليم في المجتمع، وأقرب دليل على تغير المستوى الفكري للمجتمع عبر الزمن يتم ملاحظته عند قراءة عدة كتب خطت بأزمنة مختلفة، إذ نلاحظ تغير بالمنطق المتبع في سرد كل كتاب وابتعاده عن المنطق السائد في عصرنا هذا كلما غصنا بعيداً عبر متاهات الزمن.
اختصاصية نفسية: التطور العلمي والتقني زادا الهوة بين جيل اليوم والجيل القديم
آثار سلبية
بدورها الاختصاصية النفسية الدكتورة غالية أسعيد أكدت لـ “تشرين”، أن الهوة التي نشأت بين جيل الآباء وجيل الأبناء شكلت معضلة جديرة بالاهتمام لما لها من آثار سلبية على العلاقة بين جيلين، وقد أثارت هذه المعضلة نقاشاً وجدلاً واسعاً, لافتة إلى بعض الدراسات التي أشارت إلى أن الاختلاف الكبير في الأعمار بين الآباء والأبناء يؤدي إلى تباعد التقارب في الثقافات والعادات والتقاليد وأيضاً بالأفكار، بسبب العصر الحديث الذي ساعد على بروز أكبر لمشكلة الفجوة بينهم.
سلوكيات عشوائية
وبينت أن الهوة بين الأجيال أدت إلى الفصل بين سياقات التفكير والمعتقدات والعادات والتقاليد وحتى الأذواق والثقافات بشكل عام بين جيلين أو أكثر، وللأسف –تصيف أسعيد- مازالت مستمرة إلى عصرنا الحالي وخاصة في ظل الظروف القاسية التي مرت بها البلاد على كافة الأصعدة، لافتة إلى أن هذه الهوة لم تكن كبيرة وواسعة بين الأجيال السابقة، أي قبل التطور العلمي والتقني الذي حدث خلال السنوات القليلة الماضية، والذي تعيشه الأجيال الجديدة ما سهل عليها الانفتاح على شعوب وثقافات العالم والاطلاع عليها والأخذ منها والتفاعل معها، ما أدى هو الآخر إلى زيادة الهوة بين جيل اليوم والجيل القديم الذي مازال متمسكاً بعادات وتقاليد وسياقات عمل، أكثرها لم يعد ينسجم مع متطلبات الجيل الجديد.
ومما ساعد في نشوء هذه الهوة أيضاً–حسب أسعيد- هو التنشئة الاجتماعية سواء كانت سلبية أم إيجابية, وضغوطات العمل والمتطلبات الأسرية المرهقة, وسلوكيات عشوائية متأرجحة في التربية, ووجود مغريات كثيرة حول الأبناء تمنعهم من التواصل والحوار مثل الانترنت والموبايل والتلفاز وعلى ضوء ما ذكر نلاحظ للأسف أن هذه الهوة بين الأجيال بطريقها إلى التوسع والازدياد وقد لا تكون نتائجها مرضية لكلا الجيلين.