مواكبة للتنظير النقدي للثقافة النسوية الشاعرة العراقية ابتهال بليبل: عشت الحروب كلها وكنت حريصة جداً على تدوين وجعي

تشرين- هويدا محمد مصطفى:

إذا كانت الشعرية هي الأسبق إلى وجدان النص من الشعر نفسه، وهي التي تدخل إلى أسرة مفرداته مطرزة بالسحر، وهي تترك إرثها في كلّ مكانٍ تصل إليه.. فحين تدخل عالم الشاعرة ابتهال بليبل تهتزُّ خلاياك وتلامس أعماقك كلّ مسارات القلق من دون أن تدري.. فهي تبني عمارتها الشعرية على طريقتها وتختار لها ما يلائم ذوقها في داريةٍ قلما نجدها هذه الأيام.. تسافر مجازاتها بحثاً عن ذاتها المنصهرة في أتون اللغة، وتثير الكوامن لتمتلك العالم من خلال التجربة الشعرية والتماهي مع الرؤية، فتصعد الحروف متحدية كلّ الصعاب.. تهتمُّ بالأدب النسوي عبر تفاصيل يومية تقدمها عبر النص بأسلوبٍ وأداء مثير، صدرلها العديد من المجموعات الأدبية نذكر منها: نزيلات هاديس، جسدها في الحمام، نيكروفيليا بشريط ملوّن، سيلفي نسوي، مائلات من ثقل دمعة، أغنية .. هكذا دخلنا إلى عوالم الشاعرة ابتهال بليبل من خلال هذا الحوار.

نشرت نتاجي مبكراً في المجلات الخاصة بالأطفال التي كانت تدهشني بألوانها وحروفها

اللحظة الغائمة

* من يكتب الشعر، يكتبه الزمن وتأخذه الحروف لعالمه الخاص، فكيف أخذتك القصيدة، وكانت بداية المصافحة الأولى؟

اللحظة التي أمسكت فيها القلم لأول مرة كانت غائمة، ضبابية ومعتمة، إعتام حلو لا علاقة له بالعتمة التي سأعيشها لاحقاً. أحياناً أظنها -أي تلك اللحظة- مجرّد حلم وأحياناً أظنها حقيقة، لكنها قديمة جداً.. أظنها في السنوات الأولى من عمري في العاشرة ربما، حينما اكتشفت إنّه يمكنني أن أترجم ما بداخلي من تساؤلات على الورقة من دون رقابة، نشرت نتاجي مبكراً أيضاً في المجلات الخاصة بالأطفال التي كانت تدهشني بألوانها وحروفها. ويبهرني جداً أن أجد اسمي مع نصّ ومساحة محدّدة لي في المجلة والحياة والوجود.

* بمن تأثرتِ من الشعراء وكان لهم بصمة في شعرك؟

تأثرت بكتّاب وكاتبات وليس التأثير حصراً بالشعراء.. في الكتابة هناك من يجعلك تدنو من عالمه سواء كان كاتباً أو شاعراً، لكنني أزعم إنني تأثرت جداً بنفسي وهذا ليس غروراً ولا تواضعاً، بل هي الحقيقة، فقد أحببت أن أكون أنا فقط، أنا التي تكتب وحدها في طريق شائك لكنه طريقي الخاص.

لأجل هؤلاء

* تكتبين قصيدة النثر بطريقةٍ مميزة تدعو القارئ للدهشة وأنت تتركين أسئلة كثيرة، لمن تكتب ابتهال بليبل؟

أكتب لمن يظن إنّ الكلمة من الممكن أن تؤخر موته أو غضبه أو جزعه من تفاصيل اليومي والهامشي والزائل، أكتب لامرأة نسيت موعد علاجها حينما قرأت قصيدتي، ولطالبٍ مجتهد أجلّ امتحان الفيزياء من أجل أن يكمل ديواني.

تأثرت جداً بنفسي وهذا ليس غروراً ولا تواضعاً، بل هي الحقيقة فقد أحببت أن أكون أنا فقط

* في مجموعتك (نزيلات هاديس) جرأة في الطرح ومقاربة بين النص الشعري والواقع الذي فرض ظلاله على المرأة ماذا تحدثينا عن هذه التجربة؟

لن أزعم أنها المجموعة الوحيدة في العراق والوطن العربي التي تخصّص للسجن، لكن يبدو إنها كذلك، هناك مرويات سردية.. لكن مجموعة شعرية كاملة لا أظن. امرأة في سجن في ظلمات هاديس، الديوان مغامرة محمودة العواقب كان عملاً مرهقاً لي جداً، لأنّه تلبّس وتقمص لحالة من البؤس والحرمان والجوع والاختلاف، هاديس ليس مكاناً خيالياً أبداً هو عالم واقعي قد نعيشه أو سنعيشه، لا يمكن أن أجزم أنه سجن أو مكان محدّد الصفة، المرعب أن تكون الحياة نفسها هي هاديس.

عن الشعر الجيّد

* ما رأيك بالمشهد الشعري النسائي بشكلٍ عام، والعراق بشكلٍ خاص؟

لست مع هذه التصنيفات أبداً، هناك شعر جيد وشعر غير جيد، لاحظي إنني لم أقل شعراً (سيّئاً).. أما المشهد ففيه أسماء كثيرة، لكن من منهنّ تستطيع أن تفرض نفسها وتجعل من شعرها مثار دهشة ومحلّ جذب. هناك ما هو أهم من النص عند الكثيرات.. البحث عن وجاهة أو شهرة من دون جهد وتعب وألم حقيقي. بصراحة لم أجد نصّاً منذ سنوات أتماهى معه بشكل تام.

الإعلام والشعر

* كونك تعملين بحقل الإعلام ماذا قدم لك الإعلام كشاعرة؟

**الحياة بشكلها الآخر.. هكذا قدّم لي الإعلام الفرص الكثيرة لأكون في أتون الحياة، لأرى بعيون أوسع وأسمع بشكلٍ أرهف وأدق ووو.. الإعلام فرصة للشاعر، وإن أخذ من وقته وجهده الكثير، لكنه فرصة سانحة للشاعر لو عرف كيف يستثمرها في تجاربه ويجعل منها مادة لنصوص محتدمة وصاخبة.

أكتب لمن يظن أن الكلمة من الممكن أن تؤخر موته أو غضبه أو جزعه من تفاصيل اليومي والهامشي والزائل

* مواقع التواصل الاجتماعي استسهلت للكثيرين تقديم الشعر تحت مسميات قصيدة النثر ما رأيك بذلك وهل مواقع التواصل حالة إيجابية؟

ككل ظاهرة لها أوجه عديدة، صحيح أنها سهلت الظهور للكثير من الذين ظنوا أنفسهم شعراء وكتّاب، وللأسف بعضهم صار شاعراً واقعياً بتوجيه هذا الضغط الذي تخلقه الميديا. كما أثرت على الذائقة بشكلٍ كبير جداً فخلق الأنموذج الشعري في مساحات التواصل أمر يعتريه كثير من التشوية في أحيان كثيرة، هي واقع حال يجب أن نتعامل معه، ونجايله، ونتصرف إزاء ما تنتجه.

شاعرة وعناوين

* لفت انتباهي اختيارك للعناوين: مائلات من ثقل دمعة، أغنية رأسي، نيكروفيليا بشريط ملون، وغيرها، ماذا يقدم العنوان للكتاب.. وهل الحالة النفسية لها دوراً في خلق حالة إبداعية تبدأ بالعنوان؟

أهتم جداً بهذا (العتبات العنوان والغلاف والعناوين الداخلية)، لأنّ الكتاب يبدأ من عنوانه، وأحرص على اختيار عنوان جذاب وعميق ودال، بل لا أخفيك سراً قد أستغرق أياماً كثيرة للبحث عن عنوان معين أصيغه بدقّة وتمهل.. وبالطبع هناك أثر للحالة النفسية في اختيار العنوان الملائم لمحتوى الكتاب.. كتبي هي أنا في لحظات راهنة عشتها لذلك أهتم بها جداً.

* قصائدك تتسم بالهم الإنساني والحرب على العراق، ليجد القارئ من خلال نصوصك ذاكرة لتاريخ مؤلم ماذا تقولين في ذلك؟

أنا شاعرة تفاصيل، بل تفاصيل التفاصيل، لذلك لابدّ أن يكون الهم من ضمن مواضيعي الدائمة لقد عشت الحروب كلّها، وخسرت فيها ما خسرت وكنت حريصة جداً على تدوين وجعي.. والوجع الذي أراه في هذه النصوص، فلا قيمة للشعر إن لم يكن هكذا.

الإعلام فرصة سانحة للشاعر لوعرف كيف يستثمرها في تجاربه

* هل واجهت ابتهال بليبل النقد، وما دور النقد بالنسبة لك كشاعرة، وهل هناك نقد موضوعي برأيك؟

كُتب عني العشرات من المقالات. هل أقول أنه أكثر ما كتب عن شاعرة معاصرة الآن ربما لأن الجميع – أقصد النقاد- قد وجدوا في نصوصي مادة خصبة أغرتهم بالكتابة، وكنت أقرأ وأتابع ما يكتب عن نتاجي الشعري والنثري.. هناك ما هو موضوعي جداً، وهناك ما هو احتفائي احتفالي لا يقدّم غير العرض لمضمون الكتاب وهذا النقد لا يمكن أن يعوّل عليه.

* وغير الشعر، ما هي شواغل الشاعرة ابتهال بليبل؟

حالياً أهتم وبتركيز على مواكبة التنظير النقدي للثقافة النسوية، لأنه غالباً ما تبدو النظريات النسوية في مجتمعنا مُستنزفة وفارغة من محتواها، وهذا الأمر بالطبع له علاقة وثيقة بطبيعة المجتمع العراقي ونوع الحراك الثقافي الذي يدور فيه ومراكز السلطة التي تتحكّم بكلّ جديد يظهر، وكلّ فكرة وافدة تتصارع مع الكثير من الثوابت والتابوات. وخاصة أن غالبية الذي يُكتب -الآن- باسم (النقد النّسوي) هو كذبة لأنه لا يمتّ بصلة للحركات النّسوية.. فماذا يعني أن تكتب ناقدة أو ناقد عن (النقد الأدبي النسوي) وهما لا يؤمنان به، ولا بمفاهيمه التي تتصل بالحركات النسوية ونظرياتها؟

هناك أيضاً كتب ومسودات كثيرة في الدرج، وفي ملفات الحاسوب تنتظرني. أنا في صراع دائم مع الوقت، هناك مقالات سأجمعها في كتاب، وهناك دراسات طويلة تنتظر جمعها كذلك ومجموعات شعرية والأهم من ذلك كله المشاريع التي لاتزال في مخي تدور معي ليل نهار تريد أن تترجم على الورق، لكنني كما قلت لك في صراع مع الوقت.

* ما القصيدة العالقة بروحك وترافقك أينما كنت؟

** هناك نصوص كثيرة لكن أقربها لي هو:

كان أبي شيوعياً

غرفته خالية.. إلاّ من وجعه

الساخن.. ومروحة (سقفية) يؤجّج

نسيمها جمر جراحه الطويلة

بينما سلكها الهاطل يدور.. جيئة

وذهاباً.. يشبه مرور حرّاس سود.

ليلة رحيله عنها، همس

بكلام يشبه الخبز عن سجين ناحل

يعود بعد كلّ حفلة تعذيب.. يفتح الباب ويغلقه

ثم.. يصفع الحلم ويجثو على الإسمنت البارد.

كلمته الأخيرة قالها لاهثاً وهو يستنشق

الصدأ البعيد.. في كلّ ندبة

تصادر عن روحه الهواء.

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار