في ذكرى غياب ناظم مهنا الأولى.. “أرواحٌ نيئة في جرار الفخار” بين أيدي القرّاء
تشرين- لبنى شاكر:
“أرواحٌ نيئة في جرار الفخار” كتابٌ يضمُّ سردياتٍ نصف غنائية، كما أحبّ أن يُسمي ناظم مهنا 1960- 2023 آخر كتاباته، أصدرته دار شيبلا أمس في الذكرى السنوية الأولى لرحيله، في حفلٍ استضافه المركز الثقافي في أبو رمانة، استعاد خلاله قرّاؤه وعائلته محطاتٍ في مشواره الغني، منذ نشر أول قصة له عام 1979 في مجلة الثقافة، ومنها إلى عددٍ من الصحف اللبنانية مطلع الثمانينيات، إلى أن تسلّم عام 2016 رئاسة تحرير مجلة المعرفة الصادرة عن وزارة الثقافة، وفي رصيده المُنوّع كتب الشعر والرواية والتمثيليات الإذاعية، غير أن القصة كانت الأقرب إليه، وربما مُنتجه الأكثر غزارة تحت عناوين “الأرض القديمة”، “منازل صفراء ضاحكة”، “حراس العالم”، “مملكة التلال”، ولديه أيضاً “بابل الجديدة” مقالاتٌ في الثقافة والأدب، وكتيبان عن الشاعرين الراحلين “ممدوح عدوان” و”محمد الماغوط”، عن الهيئة العامة السورية للكتاب، كما كان واحداً من كتّاب زاوية آفاق في جريدتنا تشرين.
الكتابة احتراقٌ داخليٌّ من دون تمييزٍ بين الكلمة الأدبية والصحفية
أغنى هويتنا
رئيس هيئة التحرير في دار شيبلا علا جبر تحدثت عن علاقتها مع بنات الراحل، واطلاعها على منجزاته الأدبية في مجالات الكتابة المتنوعة، وعلى حد تعبيرها لا مبالغة في القول إن ناظم مهنا قدّم الكثير للهوية الثقافية السورية والعربية، لذلك كانت الدار حريصة على أن يُوضع كتابه الأخير بين أيدي المحبين، فطبعته ونشرته، مُضيفة لـ “تشرين”: “نركّز على من أغنوا هويتننا كسوريين، وكما يعرف قرّاء الأديب الراحل، كان اهتمامه وتعلّقه كبيرين بالبيئة الريفية، وفي المخطوط الذي حصلنا عليه من عائلته كان الكلام عن تفاصيل وجزئيات تعود إلى الأزمنة القديمة حاضراً بقوة، ومن ثم اخترنا العنوان الذي اختاره قبل أن يرحل”.
الشعر دم آبائكم
زوجة الأديب الراحل الكاتبة لبيبة صالح، والتي وقّعت كتابه باسمه، استحضرت نشأته من أمٍّ فاضلة أحبها كما لم يحب أحداً، ومن أبٍ شاعرٍ أطلق عليه اسم ناظم تيمناً بالشاعر ناظم حكمت، وقالت: “أحبّ ناظم الأرض وتشبث بها فكانت جذوره راسخة في قريته، ولذلك رفض الاغتراب بينما كانت روحه تصبو إلى الفضاءات الرحيبة، من هذه الأرض الطيبة والأصول النبيلة، اكتسب ملامح شخصيته فكان كرمه وسخاءه ووضوحه وبساطته وتسامحه اللامحدود، كان قادراً على اختلاق المرح والنكتة والدعوة إلى الفرح والابتعاد عن الكآبة والحزن، وحين كان يغلبه الحزن تترقرق دمعة في عينيه وتتدحرج فيمسحها ويلجأ إلى معالجة حزنه بقراءة الشعر”.
عادت صالح إلى ديوانه “الطرف الآخر للرمل” أو كما أطلقت عليه ملحمته الشعرية التي كان يقرؤها بصوتٍ وأسلوب مميزين، وقالت أيضاً: “كنت أدعو بناتي تعالوا استمتعوا وتشبعوا بصوت وشعر ناظم، وكان يقول يا بناتي أحبوا الشعر فهو دم آبائكم وأجدادكم وسلالتكم، كان صوته الدافئ يلف منزلنا بالسكينة والسعادة والقناعة بأن لا شيء أجمل من أن نكون معاً، لكنّ زلزالاً وقع في أحد صباحات ذلك الشتاء القاسي عندما أغلق باب البيت وقرر الارتحال، فكان سفراً مقدراً لا سبيل لمواجهته أو تأجيله، تاركاً جرحاً لا يندمل ولا يبلسمه سوى كتاباته”.
احتراقٌ داخليٌّ
أستاذة النقد العربي الحديث في جامعة دمشق الدكتورة ماجدة حمود، وصفت الراحل بالمثقف الاستثنائي، ولاحظت كيف كانت الكتابة لديه سواء شعراً أم قصة أم مقالة، رحلة معاناة، حتى إنها في إحدى المرات التي أثنت فيها على افتتاحيته في مجلة المعرفة، وقال لها يومها: “إن الكتابة احتراق داخلي بالمعنى المجازي” من دون تمييزٍ بين الكلمة الأدبية والصحفية، كانت في رأيها احتراقاً بالمعنى الحقيقي، فقد كان يحرق أعصابه وعلبة دخانه ليكتب مقالة أو قصة يرضى عنها.
قلّما نجد شخصاً مثقفاً بمقدار ناظم مهنا ومتواضعاً في الوقت نفسه لهذا كان قريباً من قلوبنا جميعاً
وقالت في كلمتها للحضور: “كنت كلما خرجت من مكتبه بعد حوار ممتع معه، أحس وكأنني التقيت أحد أبطال روايات دوستويفسكي، إنه أشبه ما يكون بفيلسوف، يرفض العزلة ويبحث عن تجسيد أفكاره في أفعال، رفض أن يعيش حياته متعبداً متعه الذاتية، لهذا أصبحت الكلمة لديه تجسيداً لاحتياجات فكرية وروحية وحياتية، إنه ذلك المثقف العضوي الذي حدثنا عنه غرامشي، كان دائب السعي إلى فتح آفاق جديدة أمام ذائقة المتلقي وعقله، ولعله كان من أكثر المثقفين الذين قابلتهم في حياتي سعة اطلاع وانفتاح أفق، لهذا كان اللقاء معه رحلة ممتعة في الفكر والأدب وخفايا النفس البشرية”.
وأكّدت حمود أنه لا دلالة على فعالية الراحل الثقافية أكثر من منتجاته الروائية، التي كان يصدرها ملحقاً شهرياً لمجلة المعرفة التي استمر في رئاسة تحريرها نحو سبع سنوات، فقد تعمّد أن تكون في معظمها مترجمةً من منتخباتٍ إبداعيةٍ عالميةٍ صدرت القرن الماضي.
أحبّ ناظم الأرض ورفض الاغتراب بينما كانت روحه تصبو إلى الفضاءات الرحيبة
لحظاته الأخيرة
عضو المكتب التنفيذي في اتحاد الكتّاب العرب ورئيس تحرير مجلة الفيحاء الشاعر منير خلف، كتب قصيدة في رثاء الأديب الراحل، وقال لـ “تشرين”: “كتبت وأنا أستحضر اللحظات التي خرج فيها ناظم من بيته ليمارس رياضة المشي صباحاً، عندما أصيب بسكتة قلبية فجأة، وعلمت من بناته أن كأساً انكسر في البيت في الوقت ذاته، حاولت أن أتقمص لحظاته الأخيرة وهو يمشي ثم أخذته لحظة الموت إلى الغياب، كل هذا آلمني”.
وأضاف “كان صديقاً مشرق القلب، ينشر الحبة أينما حلَّ بحكمته وفكره وتواضعه، قلّما نجد شخصاً مثقفاً كما هو، ومتواضعاً في الوقت نفسه، لهذا كان قريباً من قلوبنا جميعاً، الرحيل فاجعة لا يمكن أن نكتب عنها حقيقة، لكني حاولت، وحاولت أيضاً توظيف بعض مؤلفاته بما يلائم مرارة فقدانه التي شعرت بها، عندما نرثي غيرنا فنحن نرثي أنفسنا كذلك، نحن مشروع حياة غير مكتمل، والحياة لا تساوي إلا وجهاً مشرقاً أو كلمة طيبة كما كان ناظم مهنا”.