قطاع “أعرج” في مضمار السّباق ..صناعة الأدوية تضع الجميع أمام تساؤلاتٍ مشروعة حول الاستراتيجيات والتطبيق

تشرين- بارعة جمعة:

في السابق.. كانت مُنتجاً رائداً في العالم العربي، تؤمّن اكتفاءً ذاتياً لسورية، وتلبي 91 % من مُتطلبات وحاجات السوق المحلية.. من المؤسف الحديث عن قطاع اقتصادي حيوي ومهم في ضمان استمرارية الحياة للمواطن بصيغة الماضي، أمام حاضرٍ بعيد كل البُعد عن ثقافة الاكتفاء أو الريادية لمنتج الدواء السوري، الذي بات سمة الارتفاعات المُتتالية غير محدودة السقف، في وقتٍ لم تزلْ تأكيدات الجهات المعنية بتأمين المواد الأولية بوصفها من الأولويات، وهو ما أكده وزير الاقتصاد والتجارة الخارجية الدكتور “محمد سامر الخليل” مؤخراً، بوضع الأولوية في التمويل للمواد الأولية المُستخدمة في الصناعات الدوائية والغذائية، حيث تم السماح لبعض الصناعات بالإدخال المؤقت لمستلزمات الإنتاج بقصد إعادة التصدير، إضافة إلى السماح للمنشآت الصناعية بنقل آلات وخطوط الإنتاج بقصد الإصلاح أو وضعها بمكان آخر.

البعض يضطر لشراء الدواء “بالظرف” أو ما يُعرف “بالدواء السياحي”.. بالمُقابل تنتعش السوق السوداء بأسعار مُضاعفة

لكن وأمام هذا التراجع بصناعة الدواء وارتفاع تكلفته وسعره يبقى السؤال الأهم.. ما مدى تطبيق القائمين على تمويل هذا القطاع لهذه التوجيهات؟! أمام واقع يُترجم عكس ذلك بالمُطلق!..

غلاء وانقطاع

ظاهرةٌ ليست بالجديدة، كما بات التلازم بين الحالتين أمراً طبيعياً لا بل ومُتوقع لدى مرضى الربو، ممن يلجؤون لاستخدام بدائل الدواء عبر”الحُقن” بما يتناسب مع العمر وطبيعة المرض، وذلك بعد رحلةٍ مُضنية من البحث عن الدواء في أكثر من صيدلية، والتي قد تستغرق أسبوعاً أحياناً.

البعض لجأ لشراء أدوية بأضعاف سعرها المطروح في الصيدليات، قصةٌ واقعية عاشتها “سعاد” في سبيل تأمين الدواء لوالدتها المُسنة المُصابة بأحد أمراض المناعة الذاتية، بعد انقطاعه شهوراً وليس أياماً فقط، ليعود للأسواق مجدداً وبأسعارٍ خيالية.

ولأن تأمين الدواء أمرٌ لا بد منه، وسط أوضاعٍ معيشية صعبة، يضطر البعض مُرغماً لشراء الدواء بـ”الظرف”، لنجد بالمُقابل انتعاشاً واضحاً لظاهرة بيع الدواء في السوق السوداء بأسعار مُضاعفة في مناطق كثيرة، وهو ما يُفاقم من معاناة المرضى أيضاً، ممن وجدوا في شراء ما يعرف بـ “الدواء السياحي”، حلاً لمأزقهم المتكرر من دون أي حلول أخرى تُذكر.

نقص المواد

تدخل في تركيبة الدواء، وتشغل الجزء الأهم من تكاليف العمل، هي المواد الأولية حجر الأساس للصناعات الدوائية، ومن دونها ستتعرض الأسواق لمأزق كبير، يترجمه ارتفاع بأسعار السلعة أو فقدانها، من هنا استمدت أهميتها في التصنيف لدى أولويات الاستيراد في قرارات وزارة الاقتصاد ومن ثم التمويل عبر المنصة وفق رؤية رئيس فرع دمشق لنقابة الصيادلة الدكتور حسن ديروان، عازياً حدوث أزمة الدواء لكون هذه المواد مستوردة، وبالتالي تخضع لعامل الوقت خاصة الفعالة منها أو السُواغات الداخلة في تركيب الأدوية ككل.

د. ديروان: عامل الوقت مهم لتأمين مُستلزمات صناعة الدواء عبر المنصّة 

لم يُنكر الدكتور ديروان عبر حديثه مع “تشرين” وجود الصعوبات التي باتت معروفة للجميع تقريباً، والتي غدت ضمن مسوغات التأخير في وصول المادة الأولية من بلد المنشأ وصعوبة التحويلات المالية لثمنها، على خلفية الإجراءات القسرية للحصار المفروض على سورية، يُضاف لذلك، ربط استيراد المواد الأولية والمواد الداخلة في عملية التصنيع الدوائي بالمنصة، والتي سوغ من خلالها د. ديروان انقطاع بعض الأصناف الدوائية لفترة زمنية وتأخير تصنيعها لبعض الوقت، بالرغم من التعديل الأخير على أسعارها.

أسبابٌ ونتائج لا تخلو من إشارات الاستفهام حول موضوع الأولوية، التي يتم التأكيد عليها بين الحين والآخر، ليأتي رد الدكتور ديروان بالالتزام في تنفيذ التوجيهات الحكومية على المواد الأولية الفعّالة فقط، في حين أن صناعة الدواء تحتاج “سواغات” متممة الصيغة الدوائية أيضاً، والتي تستغرق وقتاً أطول.

عملية مُتكاملة

من شهر إلى ثلاثة أشهر، هي المدة الزمنية التي تتراوح بينها وصول المواد الأولية من المصدر، وبين المرحلتين يقع المواطن في فخ الارتفاعات وفقدان المادة، حلقةٌ مفقودة تدور ضمنها الكثير من التبدلات بسعر الصرف، ولحين إتمام العملية ستغدو المشكلة كبيرة، فمن غير المنطقي قيام صناعة الدواء ضمن مرحلتين زمنيتين مختلفتين وبالشروط نفسها، برأي مدير مختبرات “ميديكو” للأدوية ورئيس لجنة المعامل في نقابة صيادلة سورية الدكتور نبيل القصيّر، كما أن التفريق بين النوع وطبيعة المادة ضمن إجازة الاستيراد شكّل فجوة كبيرة برأيه، لتأتي المُطالبات من قبله عن طريق وزارة الصحة بأن تكون إجازة الاستيراد المعمول بها للصناعة الدوائية ضمن وقت واحد، لا يتعدى الشهر ونصف الشهر لوصول المواد كلها (مواد فعالة، مواد تغليف، زجاجات)، لارتباط العمل بالمواد كلها.

د. القصير: من غير المنطقي التفريق بين النوع وطبيعة المادة في إجازة الاستيراد 

“اضطرابات البحر الأحمر أثرت في الصناعة الدوائية في سورية”، نوعٌ من التأثر أيضاً ذكره الدكتور القصير في حديثه مع “تشرين” يعود لارتفاع تكاليف وأجور الشحن بين الـ (150 و%300)، إضافة لتأخير وصول المواد الأولية أيضاً، والذي يُضاعف الأزمة الدوائية في البلاد.

أمام كل هذه الصعوبات يتبادر لدى الكثير تساؤل حول إمكانية تصنيع هذه المواد محلياً بدلاً من استيرادها، والتخفيف من النفقات الكبيرة!!

في وقت نفى فيه الدكتور نبيل القصير إمكانية قيام أي معمل لتصنيع هذه المواد، فليس من السهل القيام بهذه الخطوة، آخذاً من وجود معمل وحيد في العالم العربي ومُرخّص من قبل شركات إنكليزية مقره في سلطنة عُمان، لا يزال حتى اليوم غير قادر على المنافسة أمام معامل شرق آسيا (الصين، الهند، ماليزيا)، التي تعد الأساس في صناعة المواد الأولية بكميات كبيرة تصل للأطنان، ومن ثم تزويد أمريكا وأوروبا بها.

العمل مُكلف ومن يفكر بمثل هذا الاتجاه عليه أن يكون قادراً على التصدير، عدا عن كون تكلفة إقامة معامل لتصنيع المواد الأولية قد تكون غير مُجدية اقتصادياً، وفق توصيف رئيس لجنة المعامل في نقابة الصيادلة الدكتور نبيل القصير، ولكي تصبح مجدية  تحتاج خبرات كما يجب أن تُنتج  بكميات كبيرة.

ويضيف د. القصير شارحاً صعوبة الخطوة قائلاً: “حتى سلطنة عُمان لم تعد قادرة على المنافسة أمام شرق آسيا، ولو أن الأمر بهذه السهولة.. لكانت أوروبا التي تُحلل المواد الأولية تبعاً لشهاداتها أول العاملين بهذا المجال”.

حلول مطروحة

لتذليل الصعوبات لابد من تسريع عملية التمويل أي خلال شهر، رؤيةٌ قدمها الدكتور نبيل القصير نابعة من أرض الواقع، عبر المطالبات أيضاً بتوصيف أي إجازة صادرة لمصنع دوائي ضمن الفئة الثانية لكل المواد، بما يضمن وصولها بحدود شهر ونصف الشهر، تفادياً لحدوث الانقطاعات بالأسواق، فالصعوبات إدارية على حد تعبيره.

الصناعي طيفور: الحل يكمن في التأمين الصحي عبر تحميل الشركات العالمية والإقليمية عبء التعويضات

“أربعة تريليونات ليرة كفيلة لتحويل موازنة الدعم الصحي إلى رأس مال تشغيل، بتحويل هذا العبء على عاتق الشركات الإقليمية والعالمية” ، بهذه الكلمات ابتدأ الصناعي عاطف طيفور تعليقه حول مسألة الصناعات الدوائية، التي باتت تشكل عبئاً كبيراً إذا ما نظرنا إلى حصتها من موازنة الدعم الصحي التي تتجاوز أضعاف قيمة التأمين على الأفراد، لذا ففي إمكاننا وفق رؤية طيفور توفير مئات المليارات عبر التأمين، والتي لا تتجاوز تكلفته وسطياً 200 ألف ليرة سنوياً على كل فرد.

هي أعباءٌ ضخمة ، وقد تتحول لكارثة إذا ما تحدثنا عن عمل جراحي أو دواء مستورد، ليغدو الحل الأمثل برأيه هو التحوّل للتأمين الصحي، بأن يتم تحميل الشركات العالمية والإقليمية العبء الأكبر التعويضات عبر الوسطاء، وتحميل هذه الشركات نسبة وقيمة التضخم وارتفاع التكاليف والأجور والأسعار، انطلاقاً من كون التأمين الصحي عالماً اقتصادياً واجتماعياً لا متناهي الأفق، يمنح الثقة والاستقرار لجميع فئات المجتمع، ومن أضخم الموارد الوطنية التي علينا التركيز عليها حالياً برأي الصناعي عاطف طيفور، بتحويلها لسوق اقتصادي، كما أنه معادلات مُتشابكة ولعبة الذكاء، لذا ينبغي علينا أن نكون العقل المُتحكم باللعبة وتشبيكها مع الخارج بالصيغة الإنسانية والاجتماعية والاقتصادية.

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار