عابرٌ إلى ضفةٍ أخرى.. الشاعر منذر يحيى عيسى: أيّ شعر لا يخلق دهشة ويعطي صوراً جديدة ليس بشعر

تشرين- ثناء عليان:
بدأ الشاعر منذر يحيى عيسى رئيس فرع طرطوس لاتحاد الكتاب العرب مسيرته الإبداعية في الشعر بحمل “رايات سوداء لها شكل الفرح”، ومن ثم “الدخول في مدار الياسمين”، لينتقل بعدها إلى “تحولات القلب”، وليبدأ بـ “حالات لعصف القصيدة”، و”عابر إلى ضفة أخرى” ثمّ ليكتب “نديم محمد شاعر الألم والكبرياء”، و “لا توقظوها.. حالمة”، و”أوراق الوداع”.. وبعد هذه المجموعات الشعريّة الثماني, مازال الشاعر عيسى يجرّب ويتلمّس طريقه في بحر الشعر، ولذلك كان لـ “تشرين” هذا اللقاء فإلى التفاصيل:

قد تخرج بعض النصوص بشكل غير متعمّد موزونة وعلى شكل قصيدة التفعيلة وهذا سببه تأثّري بالشّعر الكلاسيكي

عن حال الشّعر والشّعراء
* كيف يرى الشّاعر منذر يحيى عيسى حال الشّعر والشّعراء هذه الأيّام؟
رغم ما يتراءى لنا كفوضى في الإنتاج الشعري يمكنني القول: إنّ الشعر لا يزال يطغى على المشهد الإبداعي، والصراع مستمر بين محافظ ومجدّد؛ ما يخلق حراكاً فكرياً وهذا لصالح الشعر الجيد، فالرّديء سينسحب من المشهد الثقافي حتماً، وغزارة الإنتاج سوف تفرز نوعاً جيداً، ولكن نلاحظ حالياً استسهال كتابة الشعر وخصوصاً في مجال قصيدة النثر، التي لها خصوصيتها وقواعد لكتابتها، فالكثير يكتبها على طريقة التفعيلة فتخرج من دون تفعيلة ومن دون مواصفات قصيدة النثر، وكذلك من يكتب الكلاسيكي قد لا تلمس فيه شعرية إنّما هو نظم لا روح للشعر فيه، إنّ أيّ شعر لا يخلق دهشة ويعطي صوراً جديدة ليس بشعر، إجمالاً رغم هذه الفوضى أرى أنّ الشعر بخير. ولكن لا بدّ للنقد من مواكبة ما ينتج شعرياً والتأكيد على تعزيز الجيّد وفرزه عن الشعر الغثّ، الشعر حاليّاً خرج على أفق التّوقّع بخروجه عن القوالب الجامدة ولم يعد شعر منابر ومهرجانات ومناسبات، وهو شعر غاص في مناطق مختلفة لم يتمّ ارتيادها سابقاً، وكذلك الهجرة إلى المستقبل (شعر الرّؤيا)، والخوض في الحياة والطبيعة.

وأنا طفل كنت شغوفاً بمراقبة والدي ومشغولاً بالجمال الذي فتح أفقي على فضاءاتٍ بعيدة

* كتبتَ قصيدة التفعيلة وقصيدة الومضة، وبعض النصوص التي رأيتَ أنك لا تريد إدراجها تحت نوع شعري أو أدبي معين. لماذا يصرُّ بعض المبدعين على أنهم ــ أحياناً ــ يكتبون (نصاً) يشبه الشعر وليس بشعر؟
بحكم النّشأة الأولى والقراءات الأولى، وما وُضعَ بين يديّ من دواوين شعر، شدّني الشّعر الكلاسيكي بإيقاعه وأوزانه وغنائيّته، فحاولت التّجريب والكتابة، وخرجت ببعض القصائد التي لم أكن راضياً عنها، ولم أرغب بنشرها، أو عرضها إلّا قليلاً، وهي لا تتجاوز أصابع اليد الواحدة، ولم أضمّنها مجموعاتي، وانسحبت من كتابتها نهائياً، ولم أنسحب من قراءتها، ومتابعة الجيّد منها. أنا أكتب قصيدة النّثر وفق طريقة خاصّة تلامس جوهر قصيدة النّثر، وقد أجمعَ الكثير من النّقاد على بصمة خاصّة لي، وعلى أنّ ما أكتبه هو إضافة مميّزة لقصيدة النّثر في سورية، ومنهم من رأى صوفيّة مميّزة في شعري، وقد تخرج بعض النصوص بشكل غير متعمّد موزونة، وعلى شكل قصيدة التفعيلة وهذا سببه تأثّري بالشّعر الكلاسيكي. لديّ نصوص طويلة ذات نفس ملحمي، ولكن الغالب في منجزي هو النّصوص القصيرة، والومضة الشعريّة التي أبحرت في يمّها طويلاً، وأصبحت أتميّز بها في الوسط الأدبي. في كلّ قراءاتي على المنابر أصرّ على القول: إنّه ليس شعراً، لأنّ للشّعر تعريفاً: وزن وقافية، ومراعاة لمشاعر من يعتبرون حرّاساً للعمود الشّعري، ولا يعترفون بشرعيّة، أو تسمية قصيدة النّثر، على الأقل أرتاح من الجدال حول شعريّة قصيدة النثر.

لا بدّ للنقد من مواكبة ما ينتج شعرياً

خشية مطبات الخواطر
*هناك التباس واضح بين قصيدة النثر، والخاطرة برأيك، ماهي العلامات التي تحفظ قصيدة النثر من الانزلاق إلى مطب الخواطر والسّرديّات القصصيّة الوجدانيّة؟
لا بدّ لمن يكتب قصيدة النثر من إدراك أنّ لقصيدة النثر بنيتها وأجواءها وإيقاعها، ومواصفات خاصة بها، وإلّا فإنّ كلّ ما يكتبه هو خواطر وإنشاء لا يمكن أن يصنّف ضمن قصيدة النّثر، أو الشّعر. قصيدة النّثر هي قطعة نثر غير موزونة، وتأتي القافية في مناطق مختلفة منها وأحياناً من دون قافية، وهي تحمل صوراً ومعانيَ شاعريّة، وهي ذات موضوع واحد على خلاف الشعر الكلاسيكي الذي يكون لكل بيت استقلاليته وقد وُجِدَت في أدبنا في العام 1960م، كما تمتاز بالكثافة والشفافيّة معاً، ويمكن القول إنّه تهجين منفتح على الشعر والسرد والنثر الفني، ولا تعتمد على المحسّنات البديعيّة، وهي متحرّرة من الأنماط التّفكيريّة، وهي تعتمد الفكر الخاص للشاعر.
وتكون نهايات الجمل والسّطور ساكنة، وتحتاج إلى التّروّي في قراءتها لوجود الغموض فيها وليس الإبهام وهي قابلة للتّعديل، وأيّ نصّ لا يملك هذه الصّفات فلا علاقة له بقصيدة النّثر ويدخل في إطار الإنشاء الأدبي، وما يقرأ على صفحات التواصل الاجتماعي، والكثير ممّا يطبع، وينشر حالياً لا علاقة له بقصيدة النثر.

عن البيئة الشعرية
*نشأتَ في وسط عائلي أعطى للشعر، وللفكر كما أعطى للقيم وللمثل الفاضلة أولويّة كبيرة. هل كان للوالد رحمه الله دوراً بارزاً في تشجيعك على خوض غمار الشعر تأليفاً وتثقيفاً؟
أوّلاً أشكرك على هذا الرّأي.. في طفولتي كان الكتاب يحيط بي على ندرته في ذلك الزمن منتصف الخمسينيات من القرن الماضي، فوالدي رحمه الله كان شغوفاً بالكتاب والكتابة والنشر في مجلّات (العرفان- التمدّن الإسلامي- المواهب- القيثارة- النهضة.. إلخ) وله ديوان شعر رغم الصعوبات، وأنا طفل كنت شغوفاً بمراقبته وملازمته، وهو يكتب بعض المخطوطات بخطّ فارسي جميل، في بداية بحثه عن لقمة العيش، وابتعاده عن البيت كان بيت جدّي هو الملجأ لي، حيث كان جدّي رحمه الله يقول شعراً صوفيّاً ويكتب مخطوطات ويجمعها ويأتي بمن يجلّدها، ولا تزال بحوزتنا؛ كلّ ذلك كان مثيراً بالنسبة لي، وفي سهرات الشتاء الطويلة، كان الكتاب هو الحاضر الأبرز، حيث يتقدّم للقراءة أحد الساهرين والبقية تستمع، ومن ثم يدور نقاش حول ما قرأ، وأنا الطفل مشغول بهذا الجمال الذي فتح أفقي على فضاءاتٍ بعيدة. كنت أعاني من مشكلة هي عدم اهتمام أقراني بالكتاب والمطالعة وقد حاولت معهم وفشلت؛ فعشت بعيداً عن الأطفال في وسط الكبار، ما حرمني من متع ألعاب الطفولة، كنت أعوّضها بالتهويم في الطبيعة، والتأمّل وخلق جاًو خاصاً بطفولة من يبحث عن المعرفة والاطّلاع، واستمرّ هذا الشّغف حتّى الآن مروراً بالمدرسة والجامعة التي لم أتغيّب عنها يوماً.

ما يقرأ على صفحات التواصل الاجتماعي وما يُطبع وينشر حالياً لا علاقة له بقصيدة النثر

* حصولك على إجازة في الكيمياء الحيوية؛ يشير إلى حالات مماثلة من التناقض بين التوجهات الدراسية ودخول معترك الأدب، كيف تفسر هذا التناقض، وهل يخدم التّخصّص في المجال الأدبي مسيرة الأديب أكثر؟

شغفت باللغة الإنكليزية بعد تعرّفي عليها، ولكن كانت دراستي الثانوية في الفرع العلمي أتاحت لي فرصة دراسة بعض الفروع الهندسية، ولم أكن أرغبها، وحرمت دورتنا من التسجيل في الأدب الإنكليزي، فكان الخيار كليّة العلوم هذا الاختصاص العلمي البحت، ولكن قدر الله أنّ أساتذة من الكبار يرقون إلى مستوى علماء والمميّز فيهم حرصهم على اللغة العربية. التعاطي مع هذه العلوم الأساسية يمنحك صبراً وجلداً ودقة وقدرة على التحليل والتركيب، والغوص في عمق القضايا والتعاطي مع الطبيعة والتفاعلات والمعادلات، ففي كلّ مجموعاتي يمكن رؤية بصمة واضحة للقضايا العلمية وقوانين الطبيعة وانعكاسها أو توصيفها بالنظر إلى العلاقات الاجتماعية بما أعطى النصوص تفرّداً عن الآخرين. الدراسة الأدبية يمكن أن تمكّن الأديب من الغوص في بحار اللغة وقواعدها، ولكن هناك نمط تفكير في الدراسة العلمية لا تعوضه القواعد وغيرها، والحمد لله أنّه تمّ تأسيسنا جيداً باللغة العربية، الإبداع، والموهبة لا علاقة لها باللغة والدراسة، وإنما لا بدّ لكلّ أديب امتلاك ناصية اللغة كأداة تعبير تليق بالإبداع.

عن نديم محمد
* ألّفتَ كتاباً شاملاً عن الشاعر الكبير نديم محمد بروح المحبة والإجلال لمكانته الشعرية البارزة صدر المؤَلّف عن الهيئة العامة السورية للكتاب، لماذا وقع الاختيار على نديم محمد من بين الأدباء الراحلين؟
تمّ تكليفي من قبل وزارة الثقافة (الهيئة العامة السورية للكتاب)، وذلك ضمن خطتها لتكريم الشعراء الراحلين، وكان نصيي الشاعر نديم محمد الذي عاش بعيداً عن الأضواء طوال حياته وهو أشهر شعراء العربية في القرن العشرين؛ والأغزر إنتاجاً ولم يكتب عنه بعد رحيله إلّا قلة من الأدباء كمقالات ولم يصدر كتاب حوله. جاء الكتاب للنّاشئة وبالتالي تم اختصار الكثير منه ولم يرضِ طموحي، قمت بعد ذلك بطباعة كتاب عنه بعنوان “نديم محمد الشاعر المتمرّد” وصدر عن دار المتن للنشر والتوزيع في بغداد، حيث تعمّدت ذلك لتعريف القارئ العراقي به.

وحيداً ستمضي
*(وحيداً ستمضي) مجموعة شعرية حداثية غلبت عليها النزعة الصوفية، ومفردات البيئة الزمانية والمكانية الحميمة، وفاضت فيها الشعرية إلى حدٍّ ملموس. حدّثنا عن هذه التجربة الجديدة في مسيرتك الأدبية وأهميتها النوعية؟
لم أفكر يوماً بالمشاركة بالمسابقات الأدبية، ولكن في العام 2022م، أعلن في العراق عن مسابقة لمجموعات شعرية من نمط قصيدة النثر دورة الشاعر الراحل عبد الجبار الفياض تقدّمت وفازت مجموعتي (وحيداً ستمضي)، والتي لاقت اهتماماً كبيراً من النقاد من مصر وفلسطين والعراق وسورية طبعاً أسعدني ذلك، ورأى بعض النقاد في المجموعة النزعة الصوفية الغالبة، لم يفاجئني ذلك؛ السبب يعود بشكل أساسي إلى نمط الأدب الذي تربيت عليه في البدايات؛ وهو الأدب الصوفي والعرفاني، والذي لا يزال يشدني إلى عوالمه النقية (شعر المكزون السنجاري – منتجب الدين العاني) وغيرهما وقد ظهر أثر ذلك في كل ما أكتب حتى النصوص التي تستند إلى العلم يظهر فيها أثر الصوفية. البيئة والزمان والوسط الأسري تترك أثرها بوضوح على كل ما أكتب، وبالتالي فإنّ النّشأة الأولى، وبيئة القرية هي الخزان الذي أُمتحُ منه، ويفيض على جميع ما أكتب.

لديّ نصوص ذات نفس ملحمي لكن الغالب في منجزي هو النّصوص القصيرة، والومضة الشعرية

* كيف ترى انطلاقة الدورة العاشرة لاتحاد الكتاب العرب في سورية؟ وماذا عن السعي إلى تطوير مستوى الحياة الثقافية لدى الكتّاب؟ هل حقّق المسؤولون عن الحياة الأدبية الثّقة والقبول؟
يمكنني القول وبكل ثقة إنّ هذه الدورة في مسيرة اتحاد الكتاب العرب في سورية هي علامة فارقة تتّسم بالمبادرات الخلّاقة والناجحة على صعيد العمل الثقافي، والمتابعة والإشراف المباشر واليومي على عمل الفروع؛ فقد تحول الاتحاد والفروع إلى خليّة عمل متواصل، وقد أدّى ذلك إلى استقطاب جمهور واسع إلى مقرّات الاتّحاد، وطرحت مطبوعات الاتحاد من خلال المعارض المستمرة على الجمهور وبأسعار رمزية، بالإضافة إلى الأنشطة النوعيّة، والمشاركة في كلّ المناسبات الوطنية والقومية، وإعلان المسابقات وإعادة نشر كتب الرّوّاد من أعضاء الاتحاد، والحضور الفاعل لاتحاد الكتاب العرب في اتحاد الأدباء والكتاب العرب، وأضيف أنّ قيادة الاتحاد تتابع الشأن الثقافي لدى الأعضاء وتتابع إبداعاتهم من خلال نشرها والاحتفاء بها.
* نادي الشباب المتفرّع عن اتحاد الكتاب العرب في طرطوس، حدّثنا عن دوره في رعاية مواهب الشباب، وإلى أيّ حدّ– جدّيّاً– يسهم في رعاية الأدب الصاعد؟

** منذ بداية الدورة العاشرة كان الهاجس الأساس هو البحث عن المواهب ورعايتها؛ فتمّ تشكيل نادٍ للشباب بإشراف ومتابعة الفرع، وزملاء لهم خبرتهم في العمل الثقافي وفي مجالات الأدب كافّةً، وبثقة أقول: لدينا في طرطوس مواهب متميزة في الشعر والقصة، وستكون لهم بصمة أدبية مستقبلاً، ونحن نجري سنويّاً مسابقة للشباب مع مكافأة مادّيّة، وهناك مسابقات مركزيّة، إضافة إلى إجراء أنشطة شهرية؛ ولقاءات مستمرّة؛ وبالتواصل مع الزملاء المشرفين مباشرة أو عبر وسائل التواصل الاجتماعي، وتم إعطاء كلّ عضو بطاقة من قيادة الاتحاد، كما تمّ التعاون مع منظمة طلائع البعث لرعاية روّاد الطلائع من خلال الإشراف وإقامة الأنشطة، وكذلك هناك نادي لأصدقاء الاتحاد, وهذا ما خلق حالة حضور جميلة لفرع الاتحاد في الوسط الجماهيري، وزاد من انتشار إقامة الأنشطة في كلّيّات الجامعة وغيرها من المراكز الرسمية.

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار