تبعات شهر ونصف الشهر ما بعد «تحالف الازدهار» الأميركي.. ما زال بالإمكان تجنيب العالم كارثة اقتصادية في حال تمّ إخراج الولايات المتحدة من البحر الأحمر ووقف العدوان على غزة
تشرين- مها سلطان:
بعد شهر ونصف الشهر تقريباً على إعلان الولايات المتحدة الأميركية تشكيل «تحالف الازدهار» تحت عنوان مزعوم هو حماية الملاحة والتجارة في البحر الأحمر.. وبعد ثلاثة أسابيع على أول عملية قصف أميركي- بريطاني ضد اليمن لتصل اليوم إلى عشر عمليات، وبعد تهديدات أميركية أخيرة بالانتقال إلى هجمات برية على اليمن، يبدو أن على منطقتنا «والعالم» أن تتجهز لما هو أبعد حيال الأهداف الأميركية المبيتة من وراء تحالف الازدهار.
وإذا ما افترضنا أنّ هذا التحالف فشل في مرحلته الأولى «أي الإعلان» لناحية أن يشكل مجرد الإعلان حالة ردع، لينتقل بعدها إلى المرحلة الثانية «وهي القصف» والتي فشلت أيضاً، ثم التحضير للانتقال للمرحلة الثالثة «وهي الهجوم البري».. إذا افترضنا أن هذا التحالف فشل حتى الآن على مستوى الأهداف الأميركية المبيتة، إلّا أننا في الوقت ذاته لا يمكننا تجاهل مسألة أنّ هذا التحالف شكل ويشكل حالة توتير مستمرة ومتصاعدة في واحدة من أكثر المناطق حيوية بالنسبة للاقتصاد العالمي الذي بالكاد بدأ يتعافي من سلسلة الأزمات التي عصفت به في العقدين الماضيين وآخرها أزمة وباء كورونا.
المنطقة والعالم على وقع التحالف الأميركي المشؤوم في البحر الأحمر.. واشنطن تستدرج الكارثة الاقتصادية بمواجهة انحسار زعامتها الدولية
– بعد شهر ونصف
بالقراءة الميدانية فإنّ جبهة البحر الأحمر- اليمن، كانت انعكاساً أو لنقل كانت أحد تداعيات العدوان الإسرائيلي الوحشي المستمر على قطاع غزة منذ حوالى أربعة أشهر، اليمن أعلن تضامنه مع القطاع وأهله، واستثمر في أكثر عنصر قوة لديه وهو البحر الأحمر الذي أعلنه بحراً مغلقاً ضد كل المصالح الإسرائيلية ومن يرتبط بها حتى يتم وقف العدوان الإسرائيلي، ورغم أنّ الإعلان اليمني كان واضحاً جداً لناحية الهدف والمستهدف إلّا أن الولايات المتحدة الأميركية الحامي والراعي والداعم للكيان الإسرائيلي وعدوانه الهمجمي على غزة، عملت على قلب هذا الوضوح والتعتيم عليه لتقدم روايتها وتقود حملة عالمية ضد اليمن وجبهته الداعمة للشعب الفلسطيني، فكان الإعلان عن تحالف الازدهار.
– توتير مفتعل
بالقراءة الأميركية، فإنّ جبهة البحر الأحمر- اليمن، كانت بمثابة ثغرة فتحت أمام واشنطن، عملت على توسيعها، لتحويلها أولاً إلى جبهة معادية لقطاع غزة عبر تقديمها كخطر عالمي أمني واقتصادي، ولتكون ثانياً عامل توتير جديداً خطيراً في المنطقة التي بدأت تتحول عنها شرقاً لمصلحة الصين وروسيا، وطالما استمر عامل التوتير فإن الصين بالدرجة الأولى «ثم روسيا» لن تجدا البيئة الاقتصادية الآمنة لتوطيد أقدامهما في المنطقة، إنّ الهدف من تحالف الازدهار وعسكرة البحر الأحمر هو افتعال حالة توتر دائمة تديم استمرار الحاجة إلى التواجد الأميركي، والأهم الأخطر هو انعكاس هذا التوتير المفتعل على الحالة الاقتصادية العالمية وإبقاء العالم متأهباً بصورة دائمة لمخاطر اندلاع حرب عالمية ثالثة، والجميع متفق على أن استمرار التوتر في المنطقة وانضمام البحر الأحمر إليها يثبت أن الاقتصاد العالمي لا يمكنه تجنب حالة التورط في التوترات الجيوستراتيجية الناجمة عن صراع القوى الكبرى، كما لا يمكنه تجنب أن يكون في قلب الاستهداف الأميركي عندما يتعلق الأمر بالزعامة العالمية.
– تدويل مصطنع
بالقراءة الاقتصادية لحالة التوتير الأميركي المفتعل، يمكننا تتبع مسار تشكيل تحالف الازدهار الذي تلقّى ضربة قاصمة منذ البداية بامتناع دول المنطقة عن الانضمام إليه، ما أفقده أهم عنصر قوة، باعتبار أن أميركا تقدم التحالف هذا على أنه في أحد أهدافه الرئيسة هو حماية دول المنطقة، وباعتبار أنّ هذا التحالف يفترض أنّ أحد جناحيه هو دول المنطقة، والجناح الثاني هو الغربي، ومع خسارة جناح المنطقة عمدت أميركا مضطرة إلى التركيز على الجانب الدولي، ولأن هذا الجانب الدولي كان مقتصراً على الأوروبيين، عمدت إلى التحول إلى شركات الشحن العملاقة لاستخدامها كأدوات ضغط على الدول في سبيل تثقيل أهمية تحالف الازدهار، كثير من التقارير صدرت خلال الشهر الماضي وتحدثت كيف أن واشنطن أوعزت، بمعنى ضغطت، على هذه الشركات «وأبرزها ميرسك وايفرغرين» لتحويل مسارها عن البحر الأحمر «باتجاه رأس الرجاء الصالح» بصورة جماعية متوالية، لإيهام العالم بأنَّ هذه المنطقة باتت خطراً أمنياً، ثم تضخيم هذا الخطر الأمني باتجاه الخطر الاقتصادي، ومعروف للجميع شدة حساسية العالم لكل ما هو اقتصادي ولأي توتر في أي بقعة من العالم يمكن أن يضاعف أزمات الاقتصاد العالمي، وفعلياً هذا ما تفعله أميركا، مضاعفة التوترات الجيوسياسية لمضاعفة المخاوف العالمية الاقتصادية، وهي عملياً تنجح في ذلك، ونجحت بداية في البحر الأحمر، ولكنه ليس النجاح الكافي، رغم أنّ الكثير من المحللين يتحدثون عن مسار التطورات العسكرية في البحر الأحمر باعتبارها نذير شؤم للاقتصاد العالمي مع بداية العام الحالي 2024.
– الكارثة يمكن منعها
بالقراءة الواقعية، لا أحد ينكر أنّ حجم المخاطر الاقتصادية ستكون كبيرة، وعلى مستوى العالم، إذا ما استمرت أميركا في عملية عسكرة البحر الأحمر، وهناك الكثير من الأصوات الدولية بدأت تنطلق ضد هذه العسكرة ممثلة بتحالف الازدهار، وبدلاً من أن تكون أميركا هي الحامية، كما تزعم، فإنها بهذه العسكرة باتت هي مصدر التهديد، فهي من يهدد حركة الملاحة والتجارة عبر البحر الأحمر ومضيق باب المندب من خلال الهجمات الصاروخية التي تقوم بها على الأراضي اليمنية والتي تمثل مصدر تهديد كبيراً للسفن العابرة، ثم عبر التهديد بعملية عسكرية برية، وهذا يعني أن يتحول البحر الأحمر إلى منطقة حرب حقيقية، حيث إن العملية الأميركية البرية لن تبقى من دون ردٍّ، تماماً كما هو حال الهجمات الصاروخية التي لم تشكل بأي حال عامل ردع.
منذ بداية مسار الأحداث في منطقة البحر الأحمر انطلقت التحذيرات بأن الجميع حول العالم هم ضمن الكارثة الاقتصادية المقبلة، لكنها واقعياً ما زالت ضمن إطار «مقبلة أو محتملة» وهذا ليس تقليلاً من شأن المخاطر والتداعيات، بل المقصود هنا أنه لا يزال بالإمكان احتواء مسار الأحداث ومنع الوصول إلى الكارثة في حال توفر النيات الأميركية في هذا الاتجاه، لكن أميركا ليست في وارد ذلك، وليست في وارد الانسحاب العسكري من البحر الأحمر، فهي لم تأتِ لترحل من دون مكاسب جيوسياسية.. هنا بالضبط يجب أن تتركز المخاوف العالمية، وليس على شعوب تدافع عن نفسها وأرضها وحقها في الحياة.
– المخاطر المحتملة
وبالمجمل، يتحدث المحللون الاقتصاديون عن مخاطر اقتصادية تتمثل في:
– ارتفاع أسعار النفط التي تشهد زيادة ملحوظة، من دون أن تصل بعد إلى مستوى الخطورة المرتقبة إذا ما استمرت التوترات في منطقة البحر الأحمر/ باب المندب.
– زيادة تكاليف التأمين لشركات الشحن، وهذه تعدّ من التأثيرات المباشرة الكبرى والفورية، حيث إن هذه الزيادة شهدت ارتفاعاً وصل إلى 250 بالمئة.
– تهديد الأمن الطاقوي عالمياً، فمن المتوقع أن تكون المناطق المستوردة للطاقة هي الأكثر معاناة خصوصاً البلدان ذات الضغط المنخفض، أو تلك التي تقف على حافة الركود.
– تضرر قطاع السلع الاستهلاكية، وهو من أكثر القطاعات تضرراً في حال استمر التوتر، خصوصاً تلك السلع المرتبطة بفترة صلاحية.
– تهديد استقرار سلاسل التوريد، حيث إن شركات الشحن قد تلجاً إلى وقف عملياتها مؤقتاً، وربما بصورة دائمة وفق ما تفرزه التطورات.
– آثار واسعة على المستهلكين والمنتجين في جميع أنحاء العالم، وإن كانت الطرق الأطول ستوفر هوامش ربح أفضل لشركات الشحن على أن ذلك سينجم عنه تضرر المستهلكين نتيجة ارتفاع تكلفة السلع والمنتجات الناجم عن التكلفة الإضافية التي سيتحملها المنتجون بفعل ارتفاع تكاليف الشحن والتأمين.
– الاضطرار إلى النقل عبر الطرق البديلة الأطول، وهي طرق غير آمنة بصورة دائمة، سواء من الناحية العملية أو الاقتصادية، نظراً لطول الفترة الزمنية التي تفرض ارتفاع تكاليف الشحن.
– ضغوط تصاعدية على تكاليف التشغيل، فمن المتوقع أن تكون المسارات الأخرى البديلة أطول بنسبة 40% ما قد يسبب ضغطاً تصاعدياً كبيراً على تكاليف التشغيل، حيث يمتد وقت الشحن في أي مكان ما بين أسبوع إلى أربعة أسابيع للشحنات، ومن ثمّ فإنّ من شأن الاضطرابات في البحر الأحمر أن تؤخر شحن البضائع، فضلاً عن زيادة أسعارها نظراً إلى ارتفاع تكاليف التشغيل خلال الفترة الإضافية.
– اضطرابات في حركة التجارة العالمية.. بما أن نحو 12% من التجارة العالمية، بما يمثل تريليون دولار، تمر عبر البحر الأحمر كل عام، فإن التأخير والتحول عن قناة السويس إلى طرق الشحن البديلة، من الممكن أن يتسبب في خلق اضطراب كبير في التجارة العالمية، كما أن طريق رأس الرجاء الصالح قد يقلل– في حال اعتماده طريقاً بديلاً لفترة من الزمن– من القدرة الفعلية للرحلة بين آسيا وأوروبا بنسبة 25% لذا يُتوقَّع- إذا ما استمرت الاضطرابات- أن يتم التفاوض على جزء كبير من عقود الشحن الطويلة الأجل بين آسيا وأوروبا في الأشهر المقبلة، ما قد يسمح لشركات الطيران بتأمين رحلاتها بمعدلات أعلى من المتوقع.