خيارات مرنة لإدارة السوق والاقتصاد بانتظار التوطين الملحّ…” سلاسل الكتلة” نهج عالمي نخسر إن تجاهلناه أكثر

تشرين- حيدرة سلامي:

تشترك جملة من التشريعات الاقتصادية في بلدنا بأنها كلها تعنى بمصلحة واحدة، وهي مصلحة تحقيق الأمن الغذائي للمواطن، فتنظيم التجارة وحماية السوق الوطنية وحماية الزراعة، كلها أمور يمكن أن نطلق عليها اسم سلسلة توريد الأمن الغذائي.. وهنا نقطة الاختلاف.

“سلاسل الكتلة” تقنية تتيح إجراء معاملات آمنة وشفافة بلا وسطاء .. توجه عالمي يضمن الكفاءة والجودة ويحقق استثمارات مجزية.. 

معيار المصلحة

حماية المستهلك تقع على عاتق وزارة التجارة الداخلية وحماية المستهلك، ضمن إطار القانون، وإذا ما أخذنا في الاعتبار المعيار الإداري في صياغة هذا القانون، فسنجد أن القانون في الموضع الصحيح، أما إذا ما أخذنا في الحسبان معيار المصلحة في صياغة القانون، وهو المعيار الذي باتت تعتمد عليه الدول المتقدمة بصياغة تشريعاتها، فيجب علينا أن نأخذ هنا في الاعتبار متطلبات التجارة الحديثة، ومواءمة هذه القوانين مع المستجدات، فرغم أن القوانين السورية أعطت تخصصاً نوعياً وشاملاً لوزاراتها وجهاتها الإدارية، حتى تطبق مبدأ فصل السلطات بشكل كامل، وهو المبدأ الفرنسي الكلاسيكي للمفكر السياسي والقانوني مونتسيكو، إلا أنها قامت بإغلاق الباب على التغييرات المحتملة، وتم تطبيق هذا المبدأ بشكل مطلق، ما أثر نوعاً ما في حركة السوق والتجارة، وما يتطلبه عمل هذين المجالين من مرونة وسرعة في الحركة وإجراء المعاملات والعقود.

كما سنجد هنا أن المصلحة العامة المطلوب تأمينها حالياً، تتعدى في احتياجاتها الموارد أو الخدمات أو الدراسات والخطط، التي يمكن أن تقدمها لها وزارة واحدة، ويمكننا أن نلتمس نتائج هذا التحليل، من أرض الواقع، فدراسة أسعار السوق ووضع خطط للتنمية وتقليل الأسعار على المستهلكين، في هذا الوقت، تعاني من صعوبة في التطبيق بسبب اختلاف الإحصاءات والمخصصات وعدم التنظيم بين الجهات المعنية بسلسلة الأمن الغذائي السوري.

التشريع العالمي الغذائي الجديد

وفي الذهاب إلى ساحة التشريعات العالمية الحديثة، وبدراسة التجارب التي تم تطبيقها بنجاح على أرض الواقع العملي، يمكننا أن نعرض للتجربة الأوروبية، ففي مجال التشريع العالمي الغذائي الجديد انطلق الاتحاد الأوروبي، ليمسك بزمام المبادرة الدولية في مجال التشريع العالمي للأمن الغذائي المختص وذلك بتعزيز البحث التكنولوجي، وذلك بأنه استفاد من تجارب المنظمات الدولية وقوانينها، وأهمها نذكر قانون «لوغار كيسي» واعتماد مبدأ البحث التكنولوجي في تحقيق الأمن الغذائي العالمي.

معيار المصلحة هو المعيار الذي باتت تعتمد عليه الدول المتقدمة بصياغة تشريعاتها

وبالاعتماد على هذه القوانين الحديثة التي تم اعتمادها بناء على معيار المصلحة في تشريع القانون، قام الاتحاد الأوروبي بالاعتماد على منظومة قانونية وتجارية جديدة تعرف باسم «سلاسل الكتلة» “”block chain .

ما هي «سلاسل الكتلة»؟

لقد أثارت تقنية سلاسل الكتلة الكثير من الضجة في السنوات الأخيرة، مع قدرتها على إحداث ثورة في إدارة سلسلة التوريد.

وتعد تقنية سلاسل الكتلة في جوهرها بمنزلة دفتر أستاذ لا مركزي يتيح إجراء معاملات آمنة وشفافة من دون الحاجة إلى وسطاء، وهو يوفر سجلاً دائماً لا يمكن التلاعب بأي من معاملاته، والذي يمكن الوصول إليه والتحقق منه من أي شخص لديه حق الوصول إلى الشبكة.

كما يمكن أن تساعد تقنية سلاسل الكتلة المؤسسات على تقليل التكاليف من خلال تبسيط عمليات سلسلة التوريد وتقليل الحاجة إلى الوسطاء، وعلى سبيل المثال من خلال إنشاء سوق لا مركزية يمكن لتقنية سلاسل الكتلة تمكين المشترين والبائعين من التعامل بشكل مباشر.

إضافة إلى ذلك، يمكن أن يساعد استخدام العقود الذكية في أنظمة سلسلة التوريد القائمة على سلاسل الكتلة، وذلك بأتمته العديد من عمليات سلسلة التوريد، وتقليل التأخير ومشكلات عدم الكفاءة، وتحسين الأداء العام لسلسلة التوريد.

أثارت تقنية سلاسل الكتلة الكثير من الضجة في السنوات الأخيرة مع قدرتها على إحداث ثورة في إدارة سلسلة التوريد

وبتوضيح آلية عملها فنحن نرى كمية الوقت الكبير الذي يتم اختزاله، ونرى كذلك كمية الأعمال الإدارية التي تقلصت على الحكومة، أو التي تم توزيعها بطريقة صحيحة، فقد جمع هذا المبدأ بين عمل الجهات الإدارية العامة والخاصة في منظومة تجارية واحدة تعمل ضمن خطة عمل واحدة على طريق تحقيق عملية التنمية الاقتصادية والأمن الغذائي.

“بروتوكول” للتنظيم

ولعل أكبر دليل على أن «سلاسل الكتلة» تعني النمو التجاري هو إعلان أكبر المجموعات في السلسلة الغذائية العالمية أنها ستتعاون مع شركة IBM، وهي شركة المؤسسات الدولية للحواسيب، والتي يعمل موظفوها في خدمة 170 دولة، وسوف تتم بناءً على الخطة التي يتم تطبيقها صياغة بروتوكول ينظم عمل سلاسل الكتلة المصمم لزيادة ثقة المستهلك بمنتجاتها.

وحتى الآن، قدمت شركة IBM منصة سلاسل الكتلة الخاصة بها إلى أكثر من 400 شركة بما في ذلك الخدمات المالية وسلاسل التوريد والخدمات اللوجستية وسلاسل البيع بالتجزئة والإدارة وأنظمة الرعاية الصحية.

وعملت مع Walmart، حيث تم تصميم النظام لتعزيز سلامة الأغذية وتقليل الهدر من خلال تمكين تتبع المنتجات الغذائية في الوقت الحقيقي من المزرعة إلى المتجر.

وشمل هذا التعاون أيضاً مع اتحاد الإمداد الغذائي Dole و Nestle و Unilever والعديد من الشركات الأخرى، وهذه المشروعات ليست سوى البداية.

دفتر رقمي غير مركزي

رغم أن «سلاسل الكتلة» تعرف في الغالب بالتمويل باعتباره تقنية مرتبطة بالعملات المشفرة مثل Bitcoin. ، ومع ذلك فإنها أحد أكثر التطبيقات ابتكاراً فيما يتعلق بقطاع الأغذية، التي ستمكننا من الحصول على سلاسل إمداد أكثر شفافية، كما تمكننا من تتبع طعامنا من مراحل الزراعة الأولى إلى المراحل النهائية في منافذ المستهلكين، حيث يطلب الناس هذه المعلومات بشكل متزايد، وعندما نتتبع مسار حركة المنتجات، يمكننا إعطاء الأشخاص إجابات صادقة، وهذا يزيد من ثقة العملاء وفي النهاية إيرادات الشركة أو المزارع أو الفرد.

وتتشكل السلسلة من خلال سجلات رقمية متسلسلة على نحو لا يمكن تعديل أي كتلة في السلسلة من دون تغيير كل الكتل الأخرى التي تتبعها في السلسلة، وهذا يتطلب موافقة كل شخص يراقب النظام. وعلى سبيل المثال، عندما يقوم أحد المزارعين بحصاد محصول، يمكنه إنشاء سجل رقمي مع تفاصيل محددة، مثل تاريخ الحصاد والموقع وأي أعمال ومعالجات أخرى، ثم يتم تشفير هذه المعلومات وإضافتها إلى سلاسل الكتلة، ومع انتقال المنتج عبر سلسلة التوريد، يضيف كل طرف لاحق – المعالجات والموزعين وتجار التجزئة – معلوماتهم الخاصة إلى سلاسل الكتلة، وقد يتضمن ذلك تفاصيل حول طرق المعالجة أو ظروف التخزين أو طرق النقل، ما يوفر دفتراً رقمياً غير مركزي يمكن لجميع الأطراف الوصول إليه تماماً كدفتر الأستاذ.

تخفيف تقلبات الأسعار

إذاً نحن هنا نلاحظ تبادل الأدوار السلس والمرن بين أطراف السلسلة، لاسيما الدور المفصلي والحركي الذي يقع على عاتق حكومات الاتحاد الأوروبي، ومن إحدى الخطوات الأخرى التي تتم دراستها حالياً لحماية السوق من تقلبات «الفوريكس»، كانت هناك فكرة تسعى إلى التقليل على الاعتماد من المبادلات النقدية، وما يترتب عليها من توتر فيما يعرف بالصرف، وهو أمر يحتاجه الاقتصاد السوري.

ستمكننا من الحصول على سلاسل إمداد أكثر شفافية وتتبع طعامنا من مراحل الزراعة الأولى إلى المراحل النهائية في منافذ المستهلكين

ففي نظام قائم على سلاسل الكتلة الغذائية، بدلاً من المعاملات النقدية، سترى قطعاً من سلسلة القيمة التي تم تحميلها على سلاسل الكتلة، كل خطوة على الطريق من المزرعة إلى الشوكة.. كل ما تحتاجه هو هاتف ذكي وقليل من النطاق الترددي – أو ربما الكثير من النطاق الترددي – وشيء ذي قيمة تريد إدراجه في دفتر الأستاذ، وقد تم اعتماد هذه التكنولوجيا من أجل إدارة الشفافية والمساءلة ومراقبة أفضل الممارسات، والوصول بها إلى البلدان النامية من أجل ضمان معايير العمل الدولية.

القضاء على الغش

هذا مهم بشكل خاص في حالة العناصر الاحتيالية أو المزيفة، وهي مشكلة هائلة داخل النظام الغذائي العالمي. وعلى سبيل المثال، الاحتيال متفشٍ في زيت الزيتون، حيث إن ما يقدر بنحو 70 ٪ من زيت الزيتون الذي يتم بيعه في الولايات المتحدة إما مزيف أو مغشوش.

هذه الحالات من الاحتيال ليست ضارة اقتصادياً فقط، ففي عام 1981 أدى استهلاك زيت الزيتون المغشوش الذي تم بيعه في إسبانيا إلى الآلاف من الوفيات. ونظراً لعدم وجود شفافية في سلسلة إمدادات زيت الزيتون، كان من الصعب تحديد الأطراف المذنبة، ولمعالجة ذلك استخدمت Ambrosus Swiss بروتوكول سلاسل الكتلة لتتبع زيت الزيتون، ورسم خرائط سلسلة التوريد وتحديد أصحاب المصلحة ونقاط الضعف في النظام، وقد بحثوا على نطاق واسع في طرق الغش لزيت الزيتون، ما أدى إلى منتجات ذات جودة عالية تشق طريقها إلى أرفف المتاجر في جميع أنحاء العالم.

آلية العمل

عندما يكون المنتج مُتتبعاً على سلاسل الكتلة، يتم تتبع كل خطوة من دورة حياته في الأماكن والأيدي التي تمر بها، لذلك يتم رصدها بشكل فعال من الأشخاص الذين يرغبون في الاستثمار ويتابعون نجاحه. ومن الناحية العملية يدخل المزارع الذي يشكل جزءاً من سلاسل الكتلة بيانات منتجه، وأجهزة الاستشعار الموجودة في مزرعته تؤكد سلامة البيانات للشخص التالي في السلسلة، مثل سائق الشاحنة الذي يأتي لالتقاط المحصول، فسائق الشاحنة سيدخل بياناته حول درجة حرارة الشاحنة، وأي خسائر قد تكون قد حدثت على طول الطريق، والمسافة التي سافر إليها حتى نقطة التوزيع، وهكذا حتى يصل المنتج إلى نقطة بيع بالتجزئة.

إحدى الفوائد الرائعة في «سلاسل الكتلة» هي أنه يمكن دمجها في التقنيات الحالية مثل الملصقات أو التطبيقات الذكية التي تساعد المستهلكين على تتبع طعامهم والتعرف عليه

ويعد إدخال هذه البيانات أمراً سهلاً، ففي الواقع إن جزءاً من جمال التكنولوجيا المعنية هو بساطتها، وسيبدو الأمر بدهياً بعد فترة قصيرة من التعرف والتعامل مع الشبكة.

كيف يتأكد المستهلك؟

هنا يأتي الدور الأكثر أهمية للحكومة، ومن الجدير بالذكر أنه، حسب الخطة المقترحة، سيتم في هذا العام إقرار قانون السوق الإلكترونية، الذي سيعنى بوضع التشريعات والإجراءات التي ستحمي المستهلك في عملية البيع والشراء، لكن الوضع هو من البساطة أكثر بكثير مما يبدو، حيث تتمثل إحدى الفوائد الرائعة في سلاسل الكتلة في أنه يمكن دمجها في التقنيات الحالية، مثل الملصقات أو التطبيقات الذكية التي تساعد المستهلكين على تتبع طعامهم والتعرف عليه.. إنه أمر سهل مثل امتلاك هاتف ذكي، والحصول على المزيد من المنتجات التي تحتوي على ملصقات ذكية عليها، وسيتمكن العملاء من معرفة متى تنتهي فاعلية منتجاتهم بالفعل، ومن أين تأتي. إضافة إلى ذلك تدفع شركات مثل Ripe.io المزيد من الشفافية، وهي تتيح بياناتها بسهولة للمستهلكين، فقد أصبح التتبع عملة ذات قيمة عالية في سوق اليوم .

ومن خلال تعامل المنتجين والموزعين والبائعين والمستهلكين، يمكن لسلاسل الكتلة إنشاء مجتمع حقيقي خارج السلاسل، وتعزيز الرابطة بين أصحاب المصلحة من خلال المعلومات التي يشاركونها.

كما يؤدي صغار المنتجين وسلاسل الإمدادات الغذائية القصيرة دوراً أساسياً في العالم النامي، حيث يعتمد النشاط الزراعي على أصحاب الحيازات الصغيرة التي تحافظ على الأسر والمجتمعات، وإذا كنا نريد أن نسلك طريقاً حقيقياً في تطوير أنظمة الأغذية المستدامة، فيجب علينا الانتباه إلى هؤلاء الأشخاص، وتطوير التكنولوجيا التي تلبي احتياجاتهم والسياق الذي يعيشون فيه.

وعلى الرغم من كونه الأكبر في العالم كمصدر لمنتجات الأغذية الزراعية من الناحية الاقتصادية، فإن الاتحاد الأوروبي يحمل عجزاً تجارياً كبيراً من الناحية الغذائية، إذ إن نموذج تجارة الأطعمة الزراعية في الاتحاد الأوروبي يتمحور اليوم حول استيراد القيمة المنخفضة للمنتجات الخام، مثل الكاكاو والفواكه وفول الصويا، وتصدير تلك القيمة العالية (على سبيل المثال، النبيذ، الجبن، الشوكولاته، وغيرها من السلع الغذائية العالية المعالجة، ما يقدم مساهمة إيجابية لاقتصاد الاتحاد الأوروبي، لكن ليس بالضرورة للطعام العالمي، حيث تساهم بـ44 ٪ من إجمالي القيمة المصدّرة ومعظمهما “سلع متميزة” يتم شراؤها من المواطنين الأثرياء في بلدان مثل اليابان والولايات المتحدة الأمريكية والصين.

إذاً يتضح لنا أن الاتحاد الأوروبي عمد إلى ربط شؤون وزارته المعنية بتحقيق الخطط الزراعية، والأمن الغذائي وحماية المستهلك، ونجمت عنه نظم سلاسل الكتلة، التي تمكّن من توحيد أعمال الشركات التجارية العامة والخاصة لصناعة حل يحقق الربح والديمومة للقطاعين العام والخاص، اللذين دائماً كان يعمل كل منهما على حساب الآخر ما يؤدي إلى ضياع الموارد.

ومما أوردناه سابقاً في المقارنة مع التشريعات العالمية الجديدة، نجد أن هذه المنظومات المتطورة يمكن أن تحقق أثراً رجعياً إيجابياً بإعادة الازدهار إلى السوق الوطنية السورية محلياً وعالمياً، وإعادة التعامل المرن بين الشركاء المساهمين في السوق المحلية، لذا فقد نكون في مرحلة تتطلب إهمال العمل بالمبادئ التقليدية، التي من أهمها مبدأ فصل السلطات، لذلك يجب علينا ألا نغلق الباب على مصراعيه على التعديلات الممكنة، كما يجب علينا إعادة تنظيم المؤسسات العامة لتكون أكثر رشاقة وأقل تعقيداً، وفي ذلك نكون قد وصلنا إلى أحد الحلول والبدائل، ولاسيما أن النهوض بالاقتصاد الوطني، والأخذ بزمام المبادرة نحو السوق العالمية، أصبحا هما الخيار الوحيد المتاح لنا في الوقت الراهن، فعوضاً عن البحث عن مستثمرين خارجيين لإنعاش الاقتصاد السوري، صرنا في مرحلة يفترض بنا من خلالها أن نكون نحن الاستثمار الذي سيجذب رؤوس الأموال.

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار