قصة الموسيقا والسينما.. اقتصرت مهامها في البداية لتجنب الضوضاء وحسب
تشرين- ادريس مراد:
بقيّ موضوع توءمة الموسيقا والصورة الهمَّ الشاغل للمعنيين في الفن السابع، منذ اختراع أديسون جهاز عرضه السينمائي عام 1887 الذي لم يكن يهدف منه سوى تقديم عرض متلاحق لصورة منفردة تعرض بشكل متوازٍ مع نغمات معينة، وثم جاء الأخوان لومبير “لويس وأوجست” وقدما عرضهما الأول بواسطة جهازهما المعروف بالسينماتوغراف بإحدى مقاهي لندن في كانون الأول عام 1895، بمصاحبة آلة البيانو..
كان يوضع تحت الشاشة بيانو كبير مكسر يُعزف عليه أي شيءٍ حتى لا يسمع المتفرجون ضوضاء آلة العرض المزعجة
في البداية استخدم الفيلم الصامت الموسيقا ليغطي على صوت جهاز العرض الذي كان يصدر ضجيجاً عالياً، وهنا جاءت مهام عازفي البيانو وفيما بعد الأوركسترا المرافقين للعروض لخنق هذا الضجيج.. يقول ميخائيل روم في كتابه “أحاديث حول الإخراج السينمائي”: «وفي غرف صغيرة خانقة مكتظة بكراسي عادية، كانت تعلق على الحائط شاشة مصنوعة من الأقمشة البيضاء، ويوضع تحت الشاشة بيانو كبير مكسر يعزف عليه أي شيء حتى لا يسمع المتفرجون ضوضاء آلة العرض المزعجة، وكانت ثمة معزوفات فالس شهيرة ترافق المشاهد الغرامية ومعزوفات سريعة جداً للمشاهد الأكثر إثارة، وعموماً فإنّ هذا العازف البائس كان مضطراً لأن يعزف طوال المساء، وذلك من دون ضوء وفي العتمة شيئاً غير محدد يذكّر من بعيد بالموسيقا، وفي هذا الوقت تمر على الشاشة مناظر صامتة.. ».
من البيانو إلى الفونوغراف
لقد استمرت تلك المرافقة الموسيقية الحية للأفلام الصامتة فترة طويلة وعلى نفس المستوى، وعندما أنشئت دور العرض الخاصة، وارتفع مستوى العرض الفني استبدل البيانو أحياناً بالفونوغراف أو بمجموعة من الآلات أو بأوركسترا كبيرة يرأسها قائد ماهر.
شكلت هذه المحاولة منعطفاً مهماً ونقطة تحول كبيرة بالنسبة للمشتغلين في السينما والملحنين على حدٍّ سواء
يقول الناقد الإنكليزي روجر مانفل في كتابه “الفيلم والجمهور”: «بدأنا نعتاد منظر الفتاة التي تجلس خلال فترة العصر لتعزف على البيانو شيئاً ما يتماشى مع الفيلم من موسيقا تعبيرية، بينما كنا نرى فرقة موسيقية تعزف في حفلات المساء، على أن يزداد عدد أفرادها بحيث تصبح فرقة كاملة حيث يعرض على الشاشة أحد الأفلام المرموقة..».
وفي عام 1908 جرت محاولة لتطوير دور الموسيقا السينمائية عندما طلب من الملحن الفرنسي سان سان أن يضع موسيقا خاصة للفيلم الطويل “مقتل الدوق دي غيز”، وشكلت هذه المحاولة منعطفاً مهماً ونقطة تحول كبيرة بالنسبة للمشتغلين في السينما والملحنين على حدّ سواء.. وفي عام 1919 وضع الموسيقي الإيطالي جوزيبي بيكيه سلسلة من المختارات الموسيقية بحيث تناسب مختلف الحالات والمشاهد التي تعرض على الشاشة، هذه المقاطع جاءت جاهزة من حيث التوقيت ومصنفة بدقة لتصاحب مشاهد مختلفة “الليل، البحر، الجبال، الغموض، التوتر…”، بينما وبعد عامين وضع داريوس فرانسوا جيار موسيقا لفيلم “إيلدورادو” للمخرج مارسيل هيربيه…
بداية تطوير السينما
هكذا، حتى منتصف العشرينيات ظلت السينماتوغراف لا تطلق الصوت البشري أو المؤثرات الصوتية التي تحاكي الطبيعة أو الموسيقا المصاحبة للصور المتحركة، ولم تكن الموسيقا التصويرية، منذ انطلاقة السينما الكبرى في العشرينيات، جزءاً من صناعتها أو مدخلاً تقنياً ضمن عناصرها الأساسية، لذلك استشعر السينمائيون آنذاك أن الأفلام الصامتة تبدو خاملة وغير مؤثرة على المشاهد بالمستوى المطلوب، وعلى إثر ذلك بدأت مراكز التطوير في الاستديوهات البريطانية والألمانية والأمريكية بالاشتغال على إيجاد تقنية تمكنهم من جعل الأفلام الناطقة، وكان الهمُّ الشاغل لدى السينمائيين، بحسب ما ذكر شارلي شابلن في مذكراته، ينصبُّ نحو جعل صوت الممثلين مسموعاً وتوجيه انتباه المتفرج إلى الصورة والكلام معاً، أي إدخال عنصر الحوار إلى العرض السينمائي.
جاء أولى التجارب لإنتاج أفلام ناطقة على يد رجل الصناعة السينمائية الألماني أوسكار ميستر عام 1908
وجاءت أولى التجارب لإنتاج أفلام ناطقة على يد رجل الصناعة السينمائية الألماني أوسكار ميستر عام 1908 وإن لم تنجح التجربة بالشكل المرضي ولكنها أحدثت تقنية جديدة وهي إدخال الصوت البشري وإنطاق الأفلام.. وبعد سنوات ليست بقليلة وصل صنّاع السينما إلى تقنية إدخال الموسيقا على شريط الفيلم مع الصوت البشري الحواري، وظهرت أفلام شارلي شابلن بشكلٍ أكثر ذكاءً في تلك المرحلة، فكان في الفيلم موسيقا بسيطة تعتمد على آلة البيانو فقط، وتتخللها بعض الجمل المنطوقة باقتضابٍ بالغ، وجاءت فكرة شابلن التي بثها إلى صنّاع أفلامه في عام 1931، أن تؤلف موسيقا حيّة تلائم السيناريو، وبدأ هو بوضع تأليف موسيقا خاصة لفيلمه الشهير “أضواء المدينة”، ثم اعتمد ذلك فيما تلا من أفلامه بعد خمس سنوات في فيلمه “العصور الحديثة”، ومن ثم فيلمه “الديكتاتور العظيم” عام 1940.
ظهرت أفلام شارلي شابلن بشكل أكثر ذكاءً في تلك المرحلة
أول عمل موسيقي للسينما
كما ذكرت، قبل تلك المرحلة كانت الموسيقا تعزف داخل السينما وعلى الهواء مباشرة، ولابدّ من الذكر بأنه يعدّ الموسيقي الفرنسي “كاميلي ساينشيز” في منتصف العشرينيات هو أول من قام بكتابة وتأليف موسيقا خاصة بالأفلام، ومع بداية الثلاثينيات وفي عام 1933 تحديداً أحدث المؤلف الموسيقي الكبير “ماكس ستينز” نقلة كبيرة في التأليف الموسيقي السينمائي، حيث أظهر للعالم كيف يمكن للموسيقا أن تصنع العجائب في الأفلام، فللمرة الأولى يؤلف موسيقا تتجانس بذلك القدر المحكم مع الأحداث وتتلاعب بعواطف الجمهور بأثر واضح لا يقبل التخمين، ساهم “ستينز” كثيراً في تشكيل وتأسيس الموسيقا التصويرية المؤثرة التي نعرفها اليوم والتي لم تعد مجرد معزوفات عشوائية تحشر في الأفلام حشراً، بل ألحاناً مدروسة تربط بين لحظة الحدث وتكثيف الإحساس بها، وقد استثمرت شركة والت ديزني جهود “ستينز” وأنتجت أفلاماً كرتونية خاصة بوحي من مقطوعاته المرحة والحيوية ومن هذه الأفلام “الفأرة ميكي”، ومن أهم ما ألفه ستينز موسيقا فيلم “كازابلانكا” و “ذهب مع الريح” عام 1949 التي أعطت للفيلم بعداً جمالياً.
تجربة الأغنية داخل الفيلم
في الخمسينيات أيضاً تزايد اهتمام الجماهير بموسيقا السينما، فأصبحوا يستمتعون بالنمط الموسيقي السينمائي، وعلى سبيل المثال عندما ظهرت أغنية (نهر القمر) في إحدى الأفلام فقد تمَّ بيع مليون نسخة من أسطوانة الأغنية، وهو رقم مهول آنذاك عام 1961، ومن هنا تتدرج إنتاج أعمال غنائية واستعراضية.
تجارب أظهرت للعالم كيف يمكن للموسيقا أن تصنع العجائب في الأفلام
أخيراً إن علاقة الصورة بالموسيقا، علاقة عضوية، لكونهما يشكلان وحدة من الدرجة الجماليةالعالية، فعندما تعطي الصورة مضموناً واحداً معيناً ومحدداً، تعطي الموسيقا مضموناً واحداً مثلها تماماً، تعطي الموسيقا الأساس العام، الصورة تفصل وتحدد والموسيقا تعمم وتعطي نوعيات تعبيرية عامة أو ميزات عامة، وبذلك توسع من إمكانات تأثير الصورة، وهنا يكمن جوهر التأثير المشترك للصورة والموسيقا والذي يكمل إحداهما الآخر.