العصر الرومانسي في الموسيقا تحولات جذرية في هيكلية الأعمال الموسيقية

تشرين- إدريس مراد:
جرت العادة أن تطلق على العصور الموسيقية الأسماء ذاتها التي أطلقت على بقية الفنون، فمثلاً عصر الباروك سمي به أيضاً فن العمارة والتشكيل والأدب والتصوير..، وكذلك الأمر في عصر النهضة.
وإذا تحدثنا عن الحقبة الرومانسية في الموسيقا، نلاحظ أن كثيراً من الصفات التي اتصف بها الموسيقيون الكلاسيكيون هي في واقع الأمر صفات الرومانسيين كافة ومن كل أنواع الإبداع..
والمفروض أن الموسيقي الكلاسيكي يشيد خارجه بناءً منطقياً من حيث القالب ومن حيث اللحن، ولا يبحث إلا عن جمال التخطيط والأنموذج، أما الموسيقي الرومانسي فلا يعبأ بكمال عمله بقدر ما يهتم بقدرته التعبيرية، فهو يطبع أحاسيسه وانفعالاته وعواطفه في عمله الفني، وإذا أراد أن يصوّر البحر مثلاً في موسيقاه، فلا يصوره واقعياً، بل يصوّر انطباعاته عنه، بمعنى يفسّر كلّ الأشياء تفسيراً جديداً، ولا يردد أي شيءٍ حرفياً.

الموسيقي الرومانسي لا يعبأ بكمال عمله بقدر ما يهتم بقدرته التعبيرية

الأسلوب التعبيري
وإن كانت هذه الصفات صحيحة، فمن المستحيل أن نقول عن موتزارت، بل وقبله باخ، إنه كلاسيكي بحت، أما بيتهوفن فسيكون في هذه الحالة أشدّ الرومانسيين تطرفاً، وفي الحقيقة إن الكلاسيكيين الحقيقيين هم الموسيقيون الإيطاليون والفرنسيون في القرن الثامن عشر، مع وجود استثناءات بكل تأكيد، فمنذ عصر باخ نستطيع أن نتلمس بوادر هذا الاتجاه المتزايد إلى التعمق في إغواء النفس البشرية والانطواء على الذات، وأخذ الحياة على محمل الجد، وحين تترجم هذه الحالة الذهنية إلى مجال الموسيقا تتخذ صبغة اتجاه متزايد إلى تعبير الباطن، وإلى ازدياد الهارمونية، بحيث تكون الروح الرومانسية بهذا المعنى عملية متصلة ظهرت بوادرها الأولى في موسيقا باخ نفسه.

الموسيقا خرجت من إطار الكتابة لرغبة ممن كانوا يمتلكون السلطة والمال

ويطلق أيضاً اسم الرومانسية، على مجموعة شديدة التباين من الموسيقيين، كان كل منهم بطبيعته يتسم بنزعة فردية متطرفة، فلكل من هؤلاء الموسيقيين مزاجه الخاص، وأسلوبه الشخصي في التعبير، ولكلٍّ منهم وسائطه الفنية الخاصة، فضلاً عن التباين الهائل في الظروف الشخصية والعامة التي أثرت في كل منهم، لذلك يكاد من المستحيل إدراج هؤلاء جميعاً ضمن فئة واحدة، ولا يمكن تسمية هذه المجموعة الضخمة باسم الرومانسيين، إلا بمعنى سلبي، فالرومانسي آخر الأمر ما هو إلا موسيقي ثائر على التقاليد، مُبشّر بالتطور السريع، ومُخالف لأسلوب المحافظين.
عموماً أطلق الباحثون اسم الرومانسية على الموسيقا في الفترة التي تلت وفاة بيتهوفن وشوبرت مباشرةً، واقترن هذا الاسم بالتوازي مع الأدب والفنون الأخرى، وبهذا المعنى يمكن أن يقال إن العصر الرومانسي في الموسيقا يكاد يشمل القرن التاسع عشر بأكمله، وتجاوزه قليلاً حتى ظهور النزعة القومية في الموسيقا في أوائل القرن العشرين.

الاهتمام بالأدب والفلسفة
يتميز الفنان الرومانسي باتساع نطاق اهتمامه، حيث يهتم بالأدب والفلسفة والتاريخ وعلم الطبيعة والنفس الإنسانية، ويدخل كلّ هذه العناصر في نطاق فنه، وطوال هذه الحقبة ازداد الجانب التعبيري للموسيقا على حساب الجانب الصوري أو الشكل، بالتوازي مع وجود تيار كلاسيكي محافظ ظلّ مستمراً من وراء التطرف في التجديد، وظهر جلياً لدى مندلسون وبرامز.
ونستطيع القول إن الموسيقا في هذه الحقبة خرجت من إطار الكتابة لرغبةٍ ممن كانوا يمتلكون السلطة والمال، إلا في حالاتٍ نادرة، فقد أصبح الموسيقي سيّد نفسه، يكتب رغباته، مستقلاً في كسب رزقه، ولم يعد هناك سيد أو خادم، وقد استغلت الإمكانيات الفنية للآلات الموسيقية في تأليف المقطوعات المخصصة لعازف منفرد أو مجموعات كبيرة، فزادت الأصوات ثراءً وامتلاءً، ودخل البيانو عصره الذهبي في أعمال شوبان وشومان، وطرأ توسعاً كبيراً على الأوركسترا في كل الأقسام الرئيسية المكوّنة له، كما استخدمت قدرات لحنية كثيرة لآلاته، ولاسيما آلات النفخ، وازداد تأكيد العنصر اللحني والعنصر الوصفي في الموسيقا، على حساب متانة التركيب السيمفوني، كما حلّ الاهتمام بالقدرة التعبيرية والدرامية في التأليف الموسيقي للأغنية التي هي تلحين موسيقي لشعر غنائي، يستخدم فيه البيانو والصوت البشري، ومن خلال هذا القالب يحاول المؤلف تحقيق اللحن الكامن في الشعر.

منذ عصر باخ نستطيع أن نتلمس بوادر الاتجاه الرومانسي المتزايد إلى التعمق

أنواع جديدة من التأليف
كما ظهرت في هذه الفترة أنواع جديدة من التأليف الموسيقي، ومن أهمها القصيد السيمفوني، وهو عمل من حركة واحدة تفرع عن السيمفونية، ووجد فيه العصر الرومانسي تعبيراً عن خيالاته الأدبية والوصفية، كما تميز القرن التاسع عشر بظهور الأوبرا الرومانسية الألمانية، وتطورت بنجاح هائل الأوبرا الكبيرة على يد الفرنسيين، ونجاح الدراما الموسيقية التي برع فيها فاغنر، ووصلت الأوبرا الإيطالية أوجها عند فيردي، وكذلك الأمر كان هناك جديد في الموسيقا الغنائية الدينية التي طغى عليها أسلوب الأوبرا، وامتلأت بالروح العاطفية التي تبدو متعارضة مع التراث الأصيل للموسيقا الدينية.

الرومانسي آخر الأمر ما هو إلا موسيقي ثائر على التقاليد

آلة البيانو هي الأساس
ويمكن القول إنه يرتبط جزء كبير من تاريخ الحركة الرومانسية في الموسيقا بتطور البيانو، إذ إن أهم المؤلفات عند عدد كبير من كبار موسيقيي هذه الفترة كانت مؤلفات للبيانو المنفرد أو للبيانو مع الأوركسترا، حيث جاء التحول من الهاربسيكورد إلى البيانو الحديث تحولاً حاسماً في تاريخ الموسيقا، أدى إلى كشف إمكانيات إيقاعية وحركية جديدة للتعبير الموسيقي، ويمكن القول إن بيتهوفن هو من فتح الطريق في هذا السياق، وجاء الرومانسيون ليكملوا ما بدأه بيتهوفن، ويمكن القول إن أعظم ما أنجزه الموسيقيون الرومانسيون هو الاستغلال الكامل لموارد البيانو، بحيث أصبحت هذه الآلة هي المميزة للعصر الرومانسي، إذ تمكّن أساطين العصر الرومانسي، شوبان وشومان وليست، من تحقيق كل الإمكانيات الكامنة في هذه الآلة الرائعة، كما طرأت تغيرات شاملة على القوالب الموسيقية المختلفة في هذه الحقبة.

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار