مبالغ ضخمة وسوء في التوزيع وتراخٍ بتقديم الخدمات.. دعوات إلى نقلة نوعية في خدمات القطاع الصحّي وتحقيق الجودة والكفاءة والتوازن

دمشق – بارعة جمعة:
مبالغ طائلة تُرصد سنوياً للقطاع الصحي بمختلف مكوناته وجهاته، لكن ما يحصل عليه المواطن لا يتناسب أبداً مع هذه المبالغ، والجهود الجبارة المبذولة من الكوادر في هذا القطاع، والشكاوى حالياً كثيرة عن غياب كبير في مستلزمات العلاج وأدواته، ما يطرح تساؤلات كبيرة عن جدوى شعار المساواة في تقديم الخدمات الصحية، في ظل غياب العدالة “الطبية” التي تتناسب مع الظروف المعيشية لكل مواطن، ما يضيع الهدف الأسمى للقطاع الصحي ألا وهو الحفاظ على الصحة العامة بشكل يحقق تطلعات الشريحة العظمى من المواطنين وعلى رأسهم ذوو الدخل المحدود.
وهذا عائد للتفاعلات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية لكل دولة ومجتمع على حدة، ما جعل هذا القطاع يواجه صعوبةً في نقل النُظم الصحية له من دولة إلى أخرى، التي تخضع للتطوير وإعادة النظر بالقوانين بشكل مستمر، وفقاً للتغييرات التي تطرأ على المجتمع والإنسان، اللذين يتبدلان ويتكيفان مع المتغيرات أيضاً، التي تمثلت في سوء تقديم الخدمات وشح الأدوية وتعطيل الأجهزة في كثير من المشافي الحكومية، ضمن روايات واقعية شهدت الكثير من المأساة.

مقصد الكثير
لعل مشفى الأطفال الأكثر رواجاً بين أقرانه من المشافي الأخرى، ما جعل لدى قاصديه رغبة جامحة في الوصول إليه من مناطق عدة، يجمع بين مرضى محافظات القطر عامة، لما له من ميزات عرفت لدى الكثير بتوفير النفقات، إلا أن “بقاء الحال من المُحال” كما يُقال، فبرد الشتاء لم يشفع للمرضى ضمنه من الانتكاسات المرضية، التي وفق رواية الأغلبية تمثلت بصعوبة تشخيص الحالات الواردة إليه، عدا انخفاض الطاقة الاستيعابية فيه.

مواطنون: بنفقات باهظة لم تُثمر نهاية المطاف كان التنقل بين المشافي الخاصة وعيادات الأطباء أسوأ الروايات التي ذكرت ..

التنقل بين المشافي الخاصة وعيادات الأطباء كان أسوأ الروايات التي ذكرت، بنفقات باهظة لم تُثمر نهاية المطاف، لتتفاقم الحالة أكثر من دون العثور على سبيل لعلاجها، وهي ظروف أقل ما يمكن وصفها بـ”البهدلة” وفق رواية البعض، لعدم وجود أسرّة للمرافقين وبقائهم ضمن كراسي الممرات ودهاليز المشفى الباردة، عدا سوء استقبال القائمين على المشفى للأهالي والمرافقين، ما جعل أغلبيتهم يقصدون الحدائق هرباً من الازدحام.
خدماتٌ أقل ما يمكن وصفها بالسيئة، بدءاً بانعدام الاهتمام بنظافة الغرف وتدفئتها، وندرة المواد اللازمة لإجراء التحاليل والصور الشعاعية التي في الغالب يتم طلبها من خارج المشفى، وصولاً لأدوات العمل من (سيرنكات وخيوط طبية وسيرومات) بكل أنواعها.

هدف إنساني
أُحدثت لمعالجة المرضى غير الميسورين، أي إنها خدمات مجانية للرعاية الصحية تابعة لوزارة الصحة وضمن موازنة الدولة، توصيفٌ لآلية عمل المشافي الحكومية قدمها الدكتور هشام ديواني خبير في التأمين الصحي ومدير سابق في وزارة الصحة، الذي وجد أن للتكلفة دوراً أساسياً في صياغة النظم الصحية في العالم وفي تطوير الإدارة أيضاً، إلا أنه وبالوقت ذاته لا يمكننا إغفال انتقال العلوم الطبية من علم بدائي إلى علم تقني وقطاع اقتصادي يحمل أهمية لجهة العاملين فيه ومن ناحية التكاليف .

د. ديواني: لا يمكننا إغفال انتقال العلوم الطبية من علم بدائي إلى علم تقني وقطاع اقتصادي يحمل أهمية لجهة العاملين فيه ومن ناحية التكاليف

كما أن تطور الرعاية الصحية ساهم في زيادة متوسط عمر الإنسان حوالي عشرين عاماً في القرن الماضي، وفق رواية الدكتور ديواني، ما جعل لدى هذه الفئة حاجة متزايدة للرعاية، وهنا برز دور النقابات العمالية بزيادة الوعي للحصول على ضمان الجودة، وتم بالفعل دعم هذا التوجه من خلال القضاء، وبالتالي إحداث تغير جوهري في مفهوم الصحة والعلاج لتبقى وزارة الصحة المسؤول الأول عن صحة جميع المواطنين وهو ما ورد وأكد عليه الدستور.

الإنفاق الحكومي
وهذا يستلزم قدراً معقولاً من الشفافية في المعلومات والبيانات، حيث إنه من المعلوم أن الموازنة هي خطة حكومية تحدد الكيفية التي سيتم استخدام الموارد العامة فيها للارتقاء بحاجات المواطنين، وفق تأكيدات الدكتور ديواني، كما ترتبط بمعرفة حجم المبالغ التي يجري تخصيصها لكل أشكال الإنفاق المختلفة وأي عوائد يتم جمعها والكيفية التي يتم فيها صرفها واستخدام الإيرادات العامة الأخرى، من هنا لابد من مناقشة آليات الإنفاق الصحي العام ومساراته ونتائجه، برأي د. ديواني، لصياغة وبلورة اتجاه عام يصلح لأن يُطرح كبديل متكامل لما يحدث على أرض الواقع من انتهاكات لحق المواطن في الصحة، نتيجة الفساد والنظر إليه بوصفه وسيلة لتحقيق غاية معينة، والبدء بمحاكمة نظامنا الصحي على أساس النتائج المترتبة على سياساته وضمن مؤشرات الإنصاف بحيث تكون النتائج أخلاقية لا يشوبها القصور على حد تعبيره.

د. ديواني: لا بد من مناقشة آليات الإنفاق الصحي العام ومساراته ونتائجه

هي سياسات ليست بالجديدة، بل تم إقرارها منذ عام 2004 ضمن ستة محاور لتحديث وتطوير القطاع الصحي، وحسب اتفاقية التمويل ومذكرة التفاهم بين الاتحاد الأوروبي وبرنامج تطوير القطاع الصحي، اعتمدت وزارة الصحة كمدير مشترك وطني ومسؤول عن تنفيذ البرنامج، إلى جانب لجنة إشراف داخل الوزارة تعمل كسلطة مُصادقة إجمالية للبرنامج ومهمتها الإشراف على الأداء الإجمالي وتقديم المشورة للوزارة حول تنفيذها لكل النواحي المرتبطة بالوزارات المعنية.
لم تستهدف الخطة الخمسية التاسعة المشكلات الجذرية للقطاع الصحي، في حين تم تحقيق بعض أهدافها، وفق الدكتور ديواني المتمثلة بخفض معدل وفيات الرُضع من 24 حالة لكل 1000 وذلك عام 2001 إلى 17.1 عام 2004 كما، زاد عدد المراكز الصحية من 1188 في بداية الخطة إلى 1560 في نهايتها أي 372 مركزاً، وتغطية السكان بالكامل تدريجياً بخدمات التأمين الصحي عبر إنشاء صندوق قومي له.

تشريعات صحية
كان آخر صدور لها في 31\5\1977، و كل ما تلاه من قرارات هي تنظيمية، وهنا لا بد من الإشارة الى ضرورة تشكيل لجنة لإعادة وضع التشريعات الصحية، برأي الدكتور هشام ديواني، مُتضمنة ما تم وضعه وتعديله وما يمكن أن يكون في المستقبل، لاسيما أن وزارة الصحة أطلقت في 15\10\2023 مشروع الرعاية الصحية الأولية للأعوام 2023-2027 ولم تطلق أي مشروع حول الرعاية الثانوية والثالثية، ناهيك بأنها لم تُشر بأي شكل إلى خطط التنمية المستدامة، خاصة في مجال الصحة، التي انطلقت في العالم عام 2016، ليتم تحقيقها والانتهاء من تطبيقها عام 2030 .

د. ديواني: ضرورة تشكيل لجنة لإعادة وضع التشريعات الصحية مُتضمنة ما تم وضعه وتعديله وما يمكن أن يكون في المستقبل

«لننهض من جديد» دعوة أطلقها الدكتور ديواني للخروج من مأزقنا الصحي بعد الأزمة التي عانت منها سورية منذ عام 2011 ولتاريخه، إضافة إلى جائحة كوفيد وزلزال 2023 والحصار الاقتصادي الجائر، من خلال نظرة مُتأنية للواقع السوري وما يحمله من سوء الخدمة للمرضى وشكاوى الأطباء من ضعف الرواتب، ووضع الموازنات التي تعاني نقصاً في الموارد وارتفاعاً بالتكاليف في القطاع الصحي.
إذاً لابد من وضع خريطة طريق لنظام صحي شمولي، عبر التوزيع المتطور للخدمات الصحية، وتعزيز القدرة على المستويين المركزي والمناطقي فيما يتعلق بسياسة التخطيط والتنفيذ وتطوير الأنظمة الصحية، ووضع نظام لتطوير أداء المشافي بتطبيق إدارة الجودة، ووضع إطار عمل من أجل تمويل ثابت للقطاع الصحي، إضافة إلى فصل القطاع العام عن القطاع الخاص، يُضاف لذلك تطبيق اللامركزية في تقديم الخدمات الصحية باستخدام منهجية التخطيط والإدارة على مستوى الإدارات الصحية في المحافظات، والتأكيد على توفير الأدوية الأساسية بأسعار مقبولة .

قنوات رسمية
لتحقيق ذلك، يجب أن يمتد دور وزارة الصحة لتكون هي المسؤول الأول عن صحة المواطن، حيث تتعدد قنوات المشافي والمراكز والمؤسسات الصحية في القطر، برأي د. ديواني، إضافة لما تُعانيه من تضخم بيروقراطي، وتعدد وتجزئة القنوات التمويلية، وعدم كفاية التمويل المتاح لقطاع الصحة، وتواضع البنية التحتية التكنولوجية والمعلوماتية التي توفر البيانات (HW, SW, Networks).لإعطاء الإحصاء والتقييم الدقيق، وعدم مناسبة مخرجات التعليم العالي لاحتياجات سوق العمل في مجال الصحة، وعدم التنسيق بين وزارتي الصحة والتعليم العالي لهذه الاحتياجات.

لابد من وضع خريطة طريق لنظام صحي شمولي عبر التوزيع المتطور للخدمات الصحية وتعزيز القدرة على المستويين المركزي والمناطقي

وللنهوض من جديد، قدم الدكتور هشام ديواني رؤيته لما يترتب على وزارة الصحة القيام به، عبر الإشراف على كل شؤون الصحة ومؤسساتها العامة والخاصة، والسير وفق تخطيط منهجي لتوفير الخدمات الصحية وتطويرها والتقدم بها وتوسيع مجالاتها، وذلك بالتخطيط للمناهج الصحية على أسس علمية مدروسة وإنشاء مراكز للأبحاث والدراسات العلمية اللازمة لكل ما يتعلق بشؤون الصحة من واقع البيئة المحلية والبيئة المحيطة والعالمية، نتيجة لسهولة السفر حالياً وسرعة انتقال العدوى، وإدارة المشافي والمستوصفات والمراكز الصحية المختلفة، لتأمين الخدمات الطبية الوقائية والعلاجية وفق الأسس العالمية والنظم الحديثة، والإسهام الصحي في مؤسسات إعادة التأهيل الوظيفي والمهني لذوي العاهات والمرضى الذين تتطلب حالته الصحية ذلك والإشراف عليها، ومنح الترخيص بممارسة العمل لكل من يعمل في الحقل الصحي، ودراسة حالة التغذية في البلاد من الناحية الصحية والسعي إلى رفع المستوى الغذائي الصحي لأفراد الشعب، والرقابة على الأغذية ومياه الشرب والأدوية ومنحها الترخيص بالإنتاج أو الاستيراد، والمراقبة الصحية للأدوية المصنعة محلياً لكل منتج مع الترميز الكامل له، والرقابة على المواد الكيميائية والترخيص باستيرادها وكذلك التجهيزات الطبية وفقاً لترميزات عالمية محددة تبين المصدر وتاريخ الصنع وتاريخ الاستيراد.

نمو اقتصادي مستدام
«لا يمكن الوصول إلى خدمات صحية جيدة من دون تحسين المخرجات الاقتصادية ” نتيجة أكدها الدكتور ديواني، جعلت من موجبات التوجه نحو اقتصاديات الصحة ضرورة ملحة، من خلال استخدام التحليل الاقتصادي في المجال الصحي، بهدف توجيه القرارات المتعلقة بتقديم الخدمات الصحية، وتوفير قدر مناسب من أسس الإصلاح الصحي القائم على الاستخدام الأمثل للموارد المتاحة، وتقييم أداء المرافق الصحية وخاصة في مجال اختيار أفضل البدائل، والمساعدة في اتخاذ القرار فيما يتعلق ببدائل تمويل الخدمات الصحية، واحتواء تكاليف الخدمات الصحية المتصاعدة.
أخيراً وليس آخراً ..
من الصعوبة بمكان ما تحسيـن وتعزيـز صحـة المواطنيـن وتقديـم رعايـة صحيـة ذات جـودة عاليـة فعّـالـة ومستدامـة مع مراعـاة المساواة في تقـديـم الخدمـــة من دون تحقيق التمـيز والجودة، والعمل بروح الفريق، وتأمين حقوق المرضى، وتحقيق الفاعلية الفنية والكفاءة المالية والأمن والبيئة والشراكة.

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار