في مختاراته الشعرية.. شجرُ نزار بريك هنيدي يرتدي العاصفة
تشرين- علي الرّاعي:
“وشرعتُ في جمرِ الرحيلْ،
كلُّ الجهات جمرٌ
موجُ البحر جمرٌ
والرياحُ شواظُ جمرٍ
والمدى جمرٌ
وجمرٌ ما أقول..”
“الرحيلُ نحو الصفر، الطوفان، كأنّ الطريقَ يميلُ، السيرة الزرقاء، قبل المطر، الجرة المكسورة، سجادةُ الأيام، ولا وقت إلّا للحياة..” وغيرها؛ هي عناوين للمختارات الشعرية التي جمعها الشاعر والناقد نزار بريك هنيدي تحت عنوان (شجرٌ يرتدي العاصفة)..
وهنيدي الذي أمسى في مدونته الشعرية اليوم ما يُقارب من عشر مجموعاتٍ شعرية، ومثلها تقريباً في مُقارباته النقدية؛ يُمكن للمتابع أن يقرأ من خلالها العديد من الملامح الشعرية في نصه الشعري، والتي يُمكن أيضاً أن يجدها مُكثفةً في هذه المختارات الصادرة عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، والتي هي اختزال لمسيرته الشعرية الحافلة التي بدأها باكراً منذ دراسته في الثانوية العامة..
كلَّ الكلمات قابلة للتأويل، أو كلّ قولٍ بتأويل، وكلُّها بمآلات وكل قول قابل للانزياح بمآلاتٍ
ملامحٌ يُمكن القول إنها شكلت أسلوبه الخاص في مشهد الديوان الشعري السوري.. أسلوبٌ لطالما شكّلَ غوايةً لقراءة العديد من النقّاد والشعراء في هذه التجربة التي نتلمس منها ما ثبتّه من مقولاتهم وأقوالهم في بداية هذه المختارات..
ولعلّ أبرز ملامح هذا الأسلوب الشعري، على الأقل من وجهة نظرنا، الومضة – الفكرة، التي كثيراً ما تذهب صوب فلسفة باطنية وصوفية، لتشكّل قصيدة رؤى ورؤيا، وكذلك مناكفة شواغل قدامى الشعراء، وبلاغة التنصيص والتضمين بصياغة كثيراً ما تقدّم وجهة نظر مُختلفة عن صياغاتها القديمة، ثمّ الاشتغال على تقنية الانزياح، وذلك من خلال استخدام جديد للمفردات التي اعتادت أن تتناول فيه في السياقات المُعتادة، وغيرها من ملامحٍ أخرى سنتلمس بعضها في شواغل هذا المقال..
“أما أنا..
فما لحقتُ قيصراً،
ولم أكنْ أحاولُ الملْكَ،
وما أردْتُ عذراً بعدَ موتْ!
كلُّ الذي حاولتُه:
أن أحفظَ الجوهرَ
في تخييل صورةٍ،
وفي
إيقاعِ صوتْ..”
ملامح النص الشعري لديه كثيرة منها الومضة – الفكرة التي تُشكّل قصيدة رؤى ورؤيا
يبدأ الشاعر نزار بريك هنيدي مُختاراته بنصين شعريين من الأدب الوجيز، وفيهما يوجهُ خطاباً – رسالة إلى شاعرين عربيين من فحول الشعر العربي قبل الإسلام: امرئ القيس، والشنفرى.. ومن خلال هذين النصين، يكادُ هنيدي يُحدد غايته في هذه الحياة، وهدفه من الكتابة، ومن النص الشعري على وجه التحديد..
ففي رسالته، أو خطابه ل(امرئ القيس)، النص الوارد أعلاه، حيث الشاعر العربي الذي مات تائهاً ومقهوراً على ملكٍ لم يستطع استرجاعه، وذلك في رحلة التيه يفتّشُ عمن يُساعده في استرجاع ملكه المسلوب، حيث يجري هنيدي ما يُشبه المقارنة في شواغل كلِّ منهما في ماهية “الملْك”، إذ وجدَ هنيدي ملكه وغايته في هذه الحياة في جواهر الشعر، فيما الشاعر قبل الإسلام، مع أنه يملك ذات “الملْك” غير أنه راح ضحية بحثٍ مُضنٍ عن “ملْكٍ” زائف، ولم يُخلد امرئ القيس غير ملكه الحقيقي الذي هو الشعر.. حيث الشاعر القديم يبحث عن قيصر ليعيد له مملكته، وجد الشاعر المُعاصر ملكه دون مساعدة من أحد، والذي كانت معركته في “حفظ الجوهر في تخييل الصورة”، ذلك الملك الكبير والحقيقي الذي لم ينتبه إليه امرؤ القيس في انشغاله في البحث عن المملكة السليبة، وكأنه يقول له: أيُّ ملكٍ في هذا الكون يُمكن له أن يشغلك عن كنزك من جواهر صور الخيال؟!
في خطابه الشعري مناكفة لشواغل قدامى الشعراء وبلاغة التنصيص والتضمين
ولا يختلف خطاب نزار بريك هنيدي إلى امرئ القيس، عن خطابه إلى الشنفرى، الذي هو الآخر شغلته ظروف الحياة عن الانتباه إلى الجوهر الشعري الذي يكتنزه في داخله، هنا حيث الجوهر الشعري الذي يوازي الأهل والسند، والجدار الأقوى الذي يُمكنُ للمرء الاحتماء به بغية الجمال الخالص البعيد عن التزوير أو أي زيفٍ:
“ولي دونكم أهلون:
حرفٌ، ونغمةٌ
ورؤيا، وإحساسٌ،
وما أتخيّلُ..
ودنيا طيوفٌ أحتمي بصفائها
من الزيف،
أبقى من هواكمُ،
وأجملُ!”
أحببت أن أثبّت هذين النصين، ليس لأجل شواغل الشاعر هنيدي، في مناكفة شواغل قدامى الشعراء، والذي يُمكن إسقاطه على الكثير من شعراء اليوم فحسب، بل لتبيان غايات القول الشعري لديه، ولماذا الشعر.. الشعر الذي يبدو هنا أسلوب حياة، وملاذاً من كلِّ قبح، وما أوسع مساحة هذا القبح من حولنا..
بعد هذين النصين، سيتجه الشاعرُ ، لن أقول إلى القصيدة الطويلة، وإنما إلى المتواليات الشعرية، ويبدو هذا أيضاً من ملامح صياغة النص الشعري لديه، تلك المتواليات التي تأتي تحت عنوانٍ واحد، ثم تتوزع حيناً مرقمة، أو بعناوين فرعية، أو دون أي عناوين أو أرقام، وإنما يفصلُ بينها بنقط..
في مدونته الشعرية اليوم ما يُقارب من عشر مجموعاتٍ شعرية ومثلها تقريباً في مُقارباته النقدية
تلك المتواليات التي يُمكن قراءتها وحدها مُكتملةً بذاتها، خارج سياق المتواليات التي تتوالى منها، أو يُمكن قراءتها كتوليدات ودفقاتٍ شعرية كل واحدة تتناسل من التي قبلها في مناخٍ وسياقٍ شعري واحد، بهذه الصياغة من التراكيب التي يُركّبها الشاعر من نسيجٍ من المفردات غالباً يُخرجها من سياقاتها المُعتادة، ويمنحها مهماتٍ جديدة، كثيراً ما تُناكف مهماتها القديمة في صياغاتها التي اعتادت أن تتواجد فيها.. فالغمية التي كانت تسحبُ مدغوعةً بقوة الريح، ها هي اليوم “غيمةٌ راحت تجرُّ الريحَ” خلفها، إنها قراءة للمشهد المُعتاد من زاوية وقوف مختلفة، إنها الشعرية التي تُعيد بحطب الكرسي إلى الغابة شجرةً خضراء يانعة..
وكذلك الوقت الذي كان يُهدر على الدوام؛ ها هو هنا “يقتاتُ الحصى”، وكذلك النجمة التي أمستْ اليوم تفرُّ من الكفين، وها هو الدرب الذي كان ذات حين يئنُّ من وقع الخُطا والحوافر؛ صار اليوم “يعبرُ خصرَ الكون محفوراً كجرحٍ أبدي..”
“هل هي العودةُ نحو الصفر؟
لا بل ربّما كانت رحيلاً
نحو أقصى نقطةٍ
تسعى إليها الكائنات
هي شيءٌ يُشبه الموتَ إذن؟
لا إنها لبُّ الحياة!!”
كثيراً ما يذهب نزار بريك هنيدي صوب القصيدة – الفكرة، لكن دون أن يتوه في مناخات الذهنية وغموضها، وإنما قصيدة الأفكار تلك التي تجول في مناخات الفلسفة، ووصف رحلة هذا الكائن الذي يُطلق عليه “إنسان” في هذا الوجود، هل هو يعود إلى نقطة الصفر، في رحلةٍ لا شيء فيها يهزُّ الروح، أم إنها لبُّ الحياة في كلِّ وعي للحظة وجود.. مناخات فلسفية وجودية نجد كثيراً من سحبها في سماء القصيدة، وذلك في مُعادل من التراكيب التي تكتمل بتقنية الانزياحات التي أشرنا إليها منذ قليل، قصيدة الفكرة والصورة والموقف لإنتاج قصيدة الرؤيا التي تأتي كطريقٍ لا تمحو خطواته السيول.. ولعلّ المتوالية – الفكرة رقم (8) من قصيدة (الرحيل نحو الصفر)، تكاد هي الأخرى تُلخص الأغراض الشعرية في تصوير مشهدي تماماً كمراسلٍ حربي ينقلُ الحدث على الهواء مُباشرةً، تُساعده بذلك عينُ كاميرا في مقاربة ما يحدث في تناغم سردي وتصوير..
“انتشرتْ المادةُ في الروح
وصارتْ للأحاسيس جسومٌ
وكيانٌ
في اللامكان
صعدَ الأسفلُ للأعلى
اضمحلَّ الارتفاع
امتزجتْ في قطرةٍ واحدةٍ
كلُّ الجهات
انصهرَ الأمسُ
بنار الغدِ
والاثنان صارا
من نسيجٍ (الآن)،
وانهدَّ الزمان..”
الملمحُ الآخر الذي يُمكن أن يتلمسه المتلقي في النص الشعر ل (هنيدي)، وهو ، ربما، بخلاف الكثير من الشعراء الذين كثيراً ما يسردون حكايتهم الشعرية من الذات، بمعنى غالباً ما يكون ضمير (الأنا) سيّد النصوص، هنا تأتي الذاتية الشعرية باعتبار الشعر هم شخصي يعني الآخرين مُتماهية بذوات الآخرين، إذ غالباً ما يعطي الشاعرُ مهمات عديدة لضمير (الأنت)، وكأنه يُخاطبُ متلقياً صديقاً يُقابله أو يُجاوره في الجلوس، يبثه في خطابه هواجسه، خوفه، رؤاه.. ومن هنا نتفهم كثرة استخدامه لفعل الأمر في تلك الإشارة إلى مخاطبٍ حاضر الآن وهنا.. “لا تخرج، أرأيت، يا أنت الواقفُ.. الخ”، وفي أحيانٍ أخرى يوجه خطابه إلى (الهو) الغائب، ومن نافل القول إن كل تلك “الأنوات”: أنا، أنت ، هو.. تُكثف في ال”نحن” التي نُشارك الشاعر فيها كلِّ هواجسه ونزعاته ورؤاه، أو هي حالنا جميعاً وقد تكثفت في مُعادلٍ شعري على شكل قصيدة، في حكائية تعلو بمشهدية تشكيلية في التصوير للواقعة – الشاغل الحدث..الخ.
أسلوبه لطالما شكّلَ غوايةً لقراءة العديد من النقّاد والشعراء في هذه التجربة
وأمام هذه الطاقة الفكرية التي تتشحُ بالفلسفة؛ يصيرُ قرباً من السر الأسمى لدى الشاعر، ويصبح عنده كلَّ شيءٍ قابلاً للتأويل، أو كلّ قولٍ بتأويل، وكلُّ شيءٍ بمآلات، أو كل قول قابلاً للانزياح بمآلاتٍ مختلفة، وكثيراً ما يخرج المفردات من برودتها في القواميس والمعاجم إلى صياغاتٍ جديدة ومختلفة، حيث هنا “يجوز للشاعر ما لا يجوز لغيره” من خلال ركوب متون أحصنة الخيال وخلالها يُعيد صياغة المهمّش ليصبح متناً، وهي عملية ليست هينة، وإنما يتحمّل صاحبها الكثير من المشقة والمكابدات، كلّ ذلك بتقطيره النص الشعري تماماً كمن يستخلص من العنب نبيذاً..
“كأني بهذا الطريق يميلُ!
حملتُ رؤاي على كتفي
مثل همزة قطعٍ
على ألفٍ
توجتّهُ الحروف
بشوك البداية
وهو النحيلُ!
وما مال فوق سطور الحياة
ولم تمحو ما رسمتّه خطاهُ السيولُ!”
يُخطاب الشاعر هنيدي هذا الكائن في مختلف حالاته وتحولاته، وهو كثيراً ما يظهرُ كائناً هشّاً، يحاول الصمود في مناخاتٍ من الغربة والعزلة في زمنٍ رغوي.. وذلك بما حفظ به من نقاء زمن الطفولة، هذه الطفولةُ التي تمنحُ القوة على ما يقول جوزيه ساراماجو: “لم أختلف عن أي شخصٍ، إلا بكوني أبقيت الطفل بداخلي على قيد الحياة”..
باسل, [14/01/2024 09:49 ص]
كما يأتي “التنصيص” والتضمين كتقنية بلاغية أخرى يلجأُ إليها الشاعرُ، تارةً من قصص من التراث والتاريخ العربيين أو من القرآن.. منها على سبيل المثال في نصيّه إلى امرئ القيس والشنفرى.. وكذلك في نص يُذكّر بإحدى قصص كتاب القرآن من سورة الكهف:
“صحوتُ..
وكانوا يغطّون في وهمهم
بين جدرانِ كهفٍ
على بابه توءمان ينامان:
كلبهمُ.. والزمان الثقيل..”
ونجده أيضاً في إحدى دفقاته الشعرية يُنبّه الكائن أمامه من حصاره من كلِّ الجهات، مُذكراً بخطبة طارق بن زياد عندما توجه إلى جيشه في غزوه الأندلس، وقد أحرق كلَّ المراكب والسفن، ولم يترك لهم غير جهةٍ واحدة، أما الموت أو النصر، وليس من خيارٍ ثالث وقد أصبحت القوات في الضفة الأخرى من البحر:
“في هذا الزمن الرغوي
ليس أمامك غير البحر،
وليس وراءك غير البحر،
وليس سوى
أشلاء جحافلك الورقية
تفترشُ الميدان..”
أخيراً بقي أن أشير إلى أمرٍ لافتٍ في هذه المختارات الشعرية، والتي تكاد تبتعد – إلا قليلاً – عن شواغل الحب، والمرأة التي غابت عن النصوص، ولولا قصيدة (قبل المطر)، كدتُ سأسأل الشاعر، ما كان سُئل به الشاعر أبو فراسٍ الحمداني يوماً “أما للهوى نهيٌ عليك ولا أمرُ؟!”، حتى كانت قصيدة (قبل المطر) التي نختم بإجابتها:
“شفتاكَ ترتعشان
ها عادَ اليمامُ يطلُّ من عينيكِ
مُدي لي يديك
لنمسح الغبش الذي غطى المرايا حولنا
هل تشعرين الآن بالدفء؟
استعدي
كي نعودَ معاً
وقولي
إنّ صمتك لم يكن
إلا دلالَ سحابةٍ
قبل المطر..”.