«ويستمر العشق»… سلامة مراد يُعيد إنتاج اللوحة على هيئة قصةٍ مُصوّرة

تشرين- لبنى شاكر:

اثنان وعشرون عاماً مضت منذ أقام سلامة مراد، معرضه الفردي الأول في السويداء، لكن ذلك لم يكن ابتعاداً أبداً عن عوالم اللوحة، بل ربما كان زمناً احتاجه لاشتغالٍ مُتعدد الاتجاهات، يبدأ من تعاطيه مع الأفكار والأحداث من حوله، ويتشعّب نحو البحث في أبعادها، وقراءة ما يُمكن أن تؤول إليه المفاهيم والرؤى، مهما بدت بسيطة واعتيادية، إلى أن كان “ويستمر العشق” معرضه الثاني في المركز الثقافي في أبو رمانة مُؤخراً؛ مجموعة أعمالٍ مُنتقاة من رصيدٍ كبير، يُضيف إليه باستمرار.

توليفة حكائية ناضجة.. يسمعها المُشاهد ويراها ويُنصت إليها ويتحدث معها”

مشاريع فنيّة
بدأ مراد هاوياً، مُتأثراً بمن أُتيح له الاطلاع على أعمالهم في محيطه القريب، من خريجي كلية الفنون الجميلة، ومن ثم علّم نفسه بنفسه، مُحاولاً أن يُطوّر أدواته وأسلوبه دونما توقف، وكانت مشاركته الجماعية الأولى عام 1998، بعدة لوحات كاريكاتير، توالت بعدها المشاركات في المعارض والورشات، لكن مع انتقاله إلى مشاريع تشكيلية مختلفة، يصح القول إن معظمها ينتمي إلى التعبيرية، يتحدث سلامة ل “تشرين”: “حب اللون والفكرة البسيطة القابلة للتحوّل وإعادة التشكّل بطريقة فلسفية تصويرية، دفعني نحو ميول فنيّة أخرى بعيداً عن الكاريكاتير، القائم أصلاً على النقد سياسياً واجتماعياً وما شابه. لاحقاً، استطعت إيجاد حالة حوار بين اللوحة والمُتفرج، مُتكئاً على الموضوع القابل للنقاش في مُختلف المحاور والزوايا، حتى عندما يكون الطرح وجدانياً وعاطفياً، فهو قابل للمحاوَرَة والجدل، وهو ما كان حاضراً في معرضي الفردي الأول، أي منذ امتلكت فكرةً واضحة المعالم، تستحق عرضها للجمهور، وكذلك كان الأمر في التجربة الثانية “ويستمر العشق”، وهي لازمةٌ أكتبها مع كل عملٍ أرسمه، عشقي للون والفرشاة والقماش”.
الكلّ الأكبر والتفاصيل
يضم المعرض حوالى أربعاً وثلاثين لوحة، يهتم الفنان في عددٍ منها بالأجزاء المُنتمية إلى كُلٍّ أكبر، إلى جانب تفاصيل مُنتقاة من البيئة حوله، لكن ما يُمكن عدّه سمةً عامة، الوضوح والبيّان اللذان يجعلان العمل حاضراً بثبات، بمعنى النأي عن الصخب وفوضى اللون والخط واستجداء الاهتمام، يقول مراد هنا “أُؤمن أن اللوحة ستُقرأ بشكلٍ يختلف مع اختلاف المُتلقي، لكنني عموماً أبحث خلال التنفيذ عن عدة عناصر محدودة، وأتجه في اللوحة نحو عنصر رئيسي من بينها، بالطبع الفكرة عندي مدروسة وخاضعة لكثيرٍ من التقصّي، بما يرتبط بها من لون وتقديم، لأنني في النهاية حريصٌ على توليفة حكائية ناضجة، يسمعها المُشاهد ويراها ويُنصت إليها ويتحدث معها”.
تعدد المواضيع عند مراد، يعود أصلاً إلى تعدد الاهتمامات، والاعتقاد بأن كل ما في الكون، يستحق التوقف عنده، لذلك يقف عند المواقف الاعتيادية والأشياء الصغيرة والإشارات البعيدة، ويُعيد تصويرها وإنتاجها، ليظهر ما فيها من عمق ودلالة، مهما بدت بسيطة في شكلها، وعلى حد تعبيره “اللوحة قصةٌ مُصورةٌ تحوي حديثاً مطولاً”، بينما لا ينفصل توثيق الأشياء والوقائع التي يلتقطها، عن رؤيته الخاصة وتحليله لها، بحيث إن إعادة الإنتاج تُكسبها حضوراً ومكانةً مختلفين تماماً عما كانت عليه في شكلها السابق، ولذلك لا يُمكن النظر إلى التفاحة أو الحبل أو القنديل أو الحصان في أعماله، كما اعتدنا دائماً، وهو ما ستتكفل به اللوحة وحدها.

اللوحة قصةٌ مُصورةٌ تحوي حديثاً مطولاً”

دراسة اللون
اختيار اللون يأتي بما يتناسب مع الفكرة بطبيعة الحال، لكنه لا يُعفي أبداً من ضرورة خضوعه للدراسة الجدية، فمهما يُقال عن رمزية الألوان ومعانيها، لا بدّ من فهمٍ حقيقيٍّ لماهيتها، وفي معرضه المُستمر هذه الأيام، فضّل مراد ألوان الإكريليك، مع تدرجاتٍ عديدة في اللون الواحد، ولا سيما الأخضر في مجموعة لوحات من الحجم الصغير، على ورق الفوتوغراف الخاص بالكاميرات، يشرح عنها: “حاولتُ تقديم شيء جديد، في التقنية القائمة على صب اللون بحركات مدروسة، والتعامل معه بالفرشاة أو السكين، وفي الفكرة أيضاً التي تخيّلت ضمنها مشهداً بانورامياً طولياً، قمت بتجزئته إلى عشر زوايا أو مناظر، بحيث لو فكّت إطاراتها سيكون المنظر الطبيعي مكتملاً، لكن في الوقت ذاته كل جزءٍ مكتملٌ بنفسه وعناصره، ومع أن النظرة المبدئية للأعمال تشي بالطبيعة التي نعرفها، لكنها مع التمعّن أبعد وأعمق وأكثر ثراءً”.

“مراد: حب اللون والفكرة البسيطة القابلة للتحوّل وإعادة التشكّل بطريقة فلسفية تصويرية دفعني نحو ميول فنيّة أخرى بعيداً عن الكاريكاتير”

في اللون الأخضر أيضاً، رسم مراد نماذج من الأبنية السكنية المتراصة، على شكل طبقات، كما في دول جنوب آسيا والهند، بعد أن استرعت انتباهه بما فيها من فقر وبؤس وعشوائية، لم تكن سبباً في جعل أبنائها نماذج عنيفة أو قاسية من البشر، بل أضفت عليهم كثيراً من الطيبة والعفوية والتفاؤل، لذلك صبغها بالأخضر، كأنه يُشاركهم التمني بأن الغد سيكون أفضل، وستختفي الرماديات إلى غير رجعة.

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار