المهرجانات لا تصنع شاعراً ولكنها تكتشف الطاقات الجديدة.. الشاعر العراقي إبراهيم مصطفى الحمد: لا بدّ للإبداع من مواكبة نقدية تراقبه وتسلط الضوء عليه
تشرين- حوار: هويدا محمد مصطفى:
اقتحم الشاعر إبراهيم مصطفى الحمد في شعره كل النجاوي وكل الهمسات فهو صاحب لغة متفوقة تعكس الضوء في لحظة التأمل وتلقي بالاستمتاع الذي يجمع المعاني المتعددة وما تحمله القصيدة من رموز حسية ونفسية وقد استولدت الأسئلة التي تحتاج أجوبتها إلى تحديد مفهوم يطرحه الشاعر على نفسه أحياناً وبهذه الحرفية الواسعة يستطيع القارئ الغوص في مفردات الشاعر للكشف عن الأعماق اللغوية ذات المعاني والاشتقاقات المبتكرة..
يمكن القول إن الشاعر الحمد امتلك ناصية اللغة بكل جوانبها.. وهو الحائز على عدة جوائز وتكريمات ولديه الكثير من المجموعات الشعرية نذكر منها: سندباديات، صهيل الغواية، تفاح وخطايا، محاولة في ابتكار غيمة، شهوة الرمل.. والكثير من الكتب. وفي مجال النقد والدراسات نذكر أيضاً بعض العناوين: مغامرة الكتابة في تمظهرات الفضاء النصي، جغرافيا الحياة والموت.. وغيرهم.. وللحديث أكثر حول تجربة الشاعر إبراهيم مصطفى الحمد التقيناه وكان لنا معه هذا الحوار:
* الشعر قدَر الشاعر وهو كائن ضوئي مشحون بالعبث والشاعر طفل يلعب كما يقول فرويد
الكائن الضوئي
* كيف تبدأ المصافحة الأولى بينك وبين النص الشعري لحظة الكتابة؟
الشعر قدَر الشاعر وهو كائن ضوئي مشحون بالعبث، والشاعر طفل يلعب كما يقول فرويد؛ لكنه يقنعنا بلعبه وعبثه، وكل نص يأتي قدحةً شعريةً تضع الشاعر في السديم، وتوقد فيه الشغف حدَّ الجنون، ثم تبدأ عملية المخاض وعندما تولد القصيدة يتولد إحساس بالنشوة وشيء من الإرهاق، هكذا تبدأ المصافحة الأولى وهكذا تنتهي كل مرة، فالشعر دروشة من نوع آخر وغوص في غرائبية كونية تختصر الأشياء وتكثّف الرؤى على نحو لا يكون إلا مع الشعر نفسه.
* من يقرأ نتاجك يدرك تجربتك الغنية وتأثرك بكل طقوس الحياة، ماذا تحدثنا عن ذلك؟
غنى التجربة الإبداعية ينبع من مجريين برأيي، وهما حجم القراءات السابقة وتنوعها أولاً ، ورهافة الحس الناجم عن تربية ذوقية خاصة أو تكوين نفسي تحت تأثير بيئة أو توجه معين أو حتى تكوين بيولوجي ثانياً، وأنا شخصياً صهرتني الحياة مراراً، فمن بيئة قروية إلى حروب متتالية إلى تمزق سياسي وتقعّر وجودي مارسته الحروب على ذواتنا جميعاً، لكن قراءاتي الأولى كان لها الأثر الكبير في بلورة أفكاري وتوجهاتي وأسلوب استقبالي لمعطيات الواقع، لذلك كنت غالباً ما أحس بالاغتراب والانفصال عن الواقع، ليس هروباً، وإنما بهدف رسم عالمي الخاص الموازي لعالم الوقع الذي أرفضه، وكنت غالباً ما أربأ بنفسي عن التقليد والمحاكاة وأحاول ألا أقدم إلّا ما يمثلني وجوداً وإحساساً وتفاعلاً، ففكر الاختلاف ظل يراودني منذ الطفولة وما زال هاجسي الأول في الحياة والإبداع.
الليل عندي حارس الشعر الأمين يبقى محفزاً وبئراً عميقة تختمر فيه الرؤى وتتحشد الأفكار والأحاسيس
بين القراءة والكتابة
* متى يكتب الشاعر إبراهيم مصطفى الحمد، وهل هناك حالة معينة تجد نفسك بحاجة للكتابة؟
كنت في بداياتي لا أكتب إلا عندما أحس بالفراغ، الذي تصاحبه ضوضاء داخلية وإيقاع يضرب في أقاصي الروح يجعل الكلمات تتسابق إلى الورقة البيضاء كشلال عنيف، فأكتب مستعجلاً جداً لألحق بهذا الطوفان الحروفي والصوري، أما الآن وبعد هذا المشوار الطويل من الكتابة، صارت الكتابة لدي عملاً يومياً أمارسه بمحبة ووقتي موزع بين القراءة والكتابة، ويبقى الإبداع خاضعاً لحاجة نفسية من الشاعر أو الكاتب لقول شيء ما، وليس هناك وقت معين للكتابة، لكن الليل حارس الشعر الأمين يبقى محفزاً وبئراً عميقة تختمر فيه الرؤى وتتحشد الأفكار والأحاسيس بدفق شعوري أو لا شعوري أخاذ وساحر.
* في مجموعتك الشعرية /سندباديات/ بين الشعر والنثرية حالة جديدة في الأدب تجمع بين النثر والشعر العمودي ماذا تحدثنا عن تلك التجربة؟
السندباديات كما وصفتها حالة جديدة في الأدب العربي، وهذا ما قاله عنها عدد من النقاد اللبنانيين والعرب الذين كتبوا عنها عروضاً نقدية ودراسات، وقد ولدت صدفة عندما أجزت نصاً نثرياً للشاعرة عناية أخضر على سبيل الملاطفة، وبعدها عرضت علي الفكرة فاستهوتني، فهي تكتب نصاً نثرياً وأنا أحيله إلى قصيدة من الشعر القريض الموزون المقفى وأضيف رؤاي الخاصة على النص الجديد، ليحدث التباين والمغايرة بين النص الأول والنص الثاني لذلك يظهر صوتان في كل نص وتتمظهر ثنائية الرجل / المرأة وكأنه حوار شعري لكن بغير شرائط الحوار.
العنوان هو العتبة الأولى بل عتبة العتبات وثريا النص وهو النص الصغير الذي يحتوي النص الكبير
عن العناوين
* لاحظت اختيارك للعناوين متفرد ومتميز كيف تختار عناوين قصائدك ودواوينك وما تأثير ذلك لشد القارئ؟
العنوان هو العتبة الأولى بل عتبة العتبات وثريا النص وهو النص الصغير الذي يحتوي النص الكبير الذي هو المتن، والعناية به لازمة ومهمة جداً، فهو من يُدخل القارئ إلى فضاءات النص وأبهائه، وله وظيفة إغرائية تحرّض على القراءة أو اقتناء الكتاب، وأنا شخصياً غالباً ما تكون عناوين قصائدي من جملة أو عبارة في النص الشعري، وأحيانا يولد العنوان بغير هذا الأسلوب لكنه على أي حال لا يأتي إلا متأخراً أي بعد كتابة النص، أما عناوين المجموعات الشعرية فهي إما أن تكون عنوان إحدى قصائد المجموعة، أو أن يأتي بعد تفكير عميق يأخذ مني وقتاً طويلاً أحياناً لأصل إلى عنوان يجمع بين جماليته ومسألة احتوائه للمجموعة وموضوعاتها.
* بما أنك ناقد كيف ترى العلاقة بين القصيدة والنقد في مشهدنا الشعري الراهن وهل هناك نقد حقيقي برأيك؟
لابد للإبداع من مواكبة نقدية تراقبه وتسلط الضوء عليه، وتكتشف مواطن الابتكار والإبداع فيه لينهض بشكل يليق بكونه أدبا، وتوماس إليوت كان يعرض مقاطع قصيدته (الأرض اليباب) على عزرا باوند إلى أن حذف الأخير ثلثي القصيدة لتكون هي قصيدة القرن العشرين، أما مشهدنا النقدي العربي والعراقي فهو مشهد خجول جداً لم يقدم شيئاً ولم يستطع مواكبة الطوفان الشعري الذي عمَّ الوطن العربي من أقصاه إلى أقصاه، وهو في أغلبه نقد يقترب من الانطباعية، أو حتى التعكز على مناهج ونظريات نقدية على نحو آلي ليس فيه ذلك الحس النقدي الذي نتمناه، وتقف المحسوبية للأسف حتى في مضمار النقد، وهناك مشكلة كبيرة أخرى وهي أن هناك الكثير ممن يكتبون عروضاً نقدية يوظفونها لأغراض عير أدبية، وبصراحة تكون حصة الأدب النسائي هي الراجحة تحت أسباب معروفة.
عن المهرجانات
* ما رأيك بالمشاركات في المنتديات العامة والمهرجانات الأدبية ،هل تخدم الشاعر أم مجرد لقاء أحبة ؟
المهرجانات لا تصنع شاعراً ولكنها تكتشف الطاقات الجديدة، وفضلها الأول في اللقاءات التي تجمع الأدباء والحوارات الهادفة التي تدور بينهم فهي مهمة حتماً، أما المنتديات الأدبية الإلكترونية فقد أصبح الكثير منها يشكل عبئاً كبيراً، بعد أن صار كل من هب ودب ومن لا يفرق بين الفعل والفاعل ينشئ منتدى، ويكون لهذا المنتدى رواد ومريدون من شعراء ونقاد ومسميات أخرى، بل صارت تمنح ألقاباً ما أنزل الله بها من سلطان.
* كيف تتجلى صورة الأنثى في قصائدك وهل لها دور في تكوين حالة إبداعية للنص الشعري وعند الشاعر؟
الحياة تتجلى بامرأة وتتجلى امرأةً، وهي فكرة تتسرب مياهها العذبة إلى نصوصي حتى السياسية منها، وغالباً ما تتضايف المرأة والوطن والذات في نصوصي، بل يكون الوطن امرأة والمرأة وطناً والذات تمتزج بكليهما، ولولا صورة الأنثى لما وُجد الإبداع أصلا، فهي الملهمة والمحفزة والحبيبة التي تمنحنا جذوة نار الإبداع، ولكن يبقى أن أقول إن كل أنثى امرأة وليست كل امرأة أنثى، وفي ذلك يكمن محتواها وتأثيرها.
تفاح وخطايا
* مجموعتك الشعرية /تفاح وخطايا / مجموعة نصوص شعرية كثيفة وذات خطاب يميزك عن غيرك فماذا تقول في ذلك؟
هذه المجموعة هي قصيدة واحدة مُدَوّرة من أول حرف فيها إلى نهايتها، على بحر المتدارك، وهي ملحمة شعرية تصور الجرح العراقي العميق والكبير ، ممتزجا بهموم الذات، ومحمولة على رمزية عالية، تحرّيت فيها الاختلاف، وهذا ما قاله عنها بعض النقاد الذين كتبوا عنها.
* الإبداع عن طريق الشبكة العنكبوتية هل عوضت فعلاً حميمية ومتعة الكتاب الورقي برأيك؟
للشبكة العنكبوتية فضل على الشاعر المعاصر، هذا لا يمكن نكرانه، فهي توصل النص إلى ملايين القراء بضغطة زر واحدة، لكنها أيضاً أثقلت الذائقة بالغث وتوافه الكتابات، ومع هذا تبقى للكتاب الورقي نكهته وقيمته التي لا يكمن أن تعوضها أي وسيلة أخرى، فقراءة الكتاب الورقي تحقق متعة جمالية لا تتحقق إلا به وما يقرأ في الكتاب الورقي يعلق بالذاكرة أكثر من غيره، بحسب بعض الدراسات العلمية.
المشهد الثقافي العربي مشهد غائم ومضبب، ونادراً ما نجد المثقف العضوي المؤثر في مجتمعه
المشهد الثقافي
* كيف ترى المشهد الثقافي في العالم العربي بشكل عام وفي العراق بشكل خاص وخصوصاً بعد تعرضه لأزمات الحرب؟
المشهد الثقافي العراقي والعربي على نحو عام مشهد غائم ومضبب، ونادراً ما نجد المثقف العضوي بتعبير غرامشي ذلك المثقف المؤثر في مجتمعه، والذي تهمه تطلعات المجتمع وهمومه، والانحدار الهائل للقيم الأصيلة على مستوى العالم كله جرَّ العالم إلى تسيد المحتوى الهابط، وهذا بعض ما حققته العولمة من تهميش المتن والتركيز على الهامش، وكل هذا يجر العالم إلى ثقافة مزيفة، والمجتمع العربي مجتمع سلبي يأخذ ولا يحاور وهذا نجده في الملبس وقصّات الشَّعر والكثير من مظاهر الحياة المعاصرة، فنحن بحاجة إلى حوار حضاري شجاع لنحقق هويتنا الثقافية التي يفترض أن نتميز بها عن باقي الأمم، مع ما نحققه من تواصل فكري معها.
* هل القصيدة رسالة وكشاعر تريد إيصالها للقارئ بطريقتك وأسلوبك وهل القصيدة تفرض نفسها دون استئذان؟
يرى رولان بارت أن النص يفرض شكل تلقيه، وهي حقيقة توصل إليها بارت، فكل نص يصنع جمهوره ويفرض سلطته على القارئ، والشعر فعلاً هو رسالة إنسانية لا بد أن تمتلك سمة التأثير في القارئ، ولابد للقارئ من إعادة إنتاجها فالقراءة حوار إنساني دائم ودائب، والنص الناجح أو ما يسمى بالنص الكتابي هو الذي يقبل قراءات متعددة، وهو بعكس النص القرائي الذي يستهلك بقراءة واحد، فتمنّع النص ضروري لإدامة الحياة فيه.
يليق بالشاعرة الشعر الحر وقصيدة النثر أكثر لأنه يستجيب لطبيعة تكوين المرأة وخصوصاً في الإلقاء..
عن الأدب النسوي
* ما رأيك بالأدب النسوي؟ وهل هناك إشكالية حول القصيدة التي تكتبها المرأة؟
الأدب النسوي هو ما يكتب حول المرأة سواء كتبه الرجل أم كتبته المرأة نفسها، وأعتقد أنك تقصدين الأدب النسائي الذي تكتبه المرأة وتتعدد مواضيعه، وهنا لابد من التفريق بين القصيدة الموزونة ذات الشكل العروضي التقليدي من ناحية، وقصيدة الشعر الحر ومن بعدها قصيدة النثر من ناحية أخرى، فالنوع الأول برأيي الخاص نادرا ما تجيده المرأة العربية على مستوى الكتابة والإلقاء، لأنه نص منبري بامتياز لا يتناسب مع أداء المرأة برقتها وأنوثتها وحساسيتها المفرطة، بينما يليق بها النوع الثاني أكثر لأنه برأيي يستجيب لطبيعة تكوين المرأة وخصوصاً في الإلقاء، فنحن غالبا ما نجد في المهرجانات شواعر يزعقن بشكل لا يليق على المنبر، ولا أنفي وجود شواعر مجيدات في إلقاء القصيدة ذات الشكل التقليدي، ولكنهن قليلات ونادرات جداً.
* هل من أعمال شعرية وإبداعية قادمة ؟
لدي ثلاث مخطوطات شعرية وقصائد أخرى لم أقم بجمعها في مخطوطة ولدي مخطوطة في النقد السردي أيضاً، وفي نيتي إصدار الأعمال الشعرية الجزء الثاني في قابل الأيام.