ثماني ملامح يجدها هايل محمد الطالب أنها طبعت مشهد القصيدة الحديثة
تشرين- علي الرّاعي:
في كتابه “تحولات الدلالة في النص الشعري” – إصدار خاص يُحاول الناقد هايل محمد الطالب – على ما يبدو- إعادة بعض الحضور النقدي للنتاج الشعري الجديد منذ تسعينيات القرن الماضي إلى اليوم، والتي تمّ تجاهلها من قبل النقد الأكاديمي وكأنها “سقط متاع” مُلتفتاً لنتاج الأقدمين والتي غالباً ما أشبعت دراسات ونقداً وقراءة..
سمات لخصائص النتاج الشعري الجديد
ظواهر شعرية
صحيح أنّ الطالب، لا يتناول في دراسته نتاج شاعرٍ بعينه، غير أنه يُلاحق بعض الظواهر الشعرية، التي برأيه صارت إحدى ملامح القصيدة الحديثة، ليعطي في النهاية سمات هي من خصائص النتاج الشعري الجديد، حتى وأن أخذ الطالب لدراسة هذه الملامح نماذج شعرية لشعراء بعينهم، وهذه النماذج الجزئية كعينات للكل.!!
هذه الظواهر الشعرية وجدها الطالب في ثماني ملامح طبعت القصيدة التي أنتجت خلال عقد التسعينيات، وما جاء بعد ذلك، هذه الظواهر وجدها في: البناء الدرامي وجماليات الصورة، حضور التراث من خلال دراسة تحولات الأطلال في النص الشعري، المغامرة اللغوية في قصيدة التسعينيات، البنية اللغوية والأسلوبية للقصيدة الطويلة، النزعة الرومانسية، خطاب الحب عبر تحولاته المختلفة، استراتيجيات بناء النص الشعري، وأخيراً ثنائية الأنوثة- الوطن في النص الشعري.
تحولات الأطلال في النص الشعري
البناء الظرامي
وهنا سنسلط بدرونا الضوء على بعض هذه المظاهر في هذه القراءة للكتاب، منها مثلاً ” البناء الدرامي وجماليات الصورة” التي يأخذ لها الناقد نموذجاً شعراء الجزير السورية، ويختار لهذا النموذج بعض قصائد لخمسة شعراء من هذه الجغرافيا هم: أديب حسن محمد، عيسى الشيخ حسن، منير خلف، محمد المطرود، وعارف حمزة.
وأسباب اختياره لنتاج هؤلاء – كما يزعم- لأنها تجارب تمتاز بما يجعلنا نأمل أنه سيكون لها بصمتها الخاصة على مستقبل شعر هذه الفترة – ويقصد فترة التسعينات- وذلك لما تمتاز به من نزوع تجريبي، سواء على صعيد اللغة والبناء الفني، أو على سجل البحث عن وسائل وأدوات إبداعية جديدة، وفي هذا “النموذج” سيتناول الناقد جانبين هما البناء الدرامي وجماليات الصورة.. ويذكر أنه لو استعرضنا عناوين المجموعات الشعرية لهؤلاء الشعراء، فإنّ ثمة مقولتين دلاليتين تسيطر عليها، هما: مقولة الموت، ومقولة الحزن، فنقرأ عند أديب حسن محمد “موتى من فرط الحياة، وثامنهم حزنهم” ونجد لدى عيسى الشيخ حسن “أناشيد مبللة بالحزن” ولدى عارف حمزة “حياة مكشوفة للقنص”، أما عند منير محمد خلف فله “جنازة الإرث وسقوط آخر الأنهار”.. في قصائد هذه المجموعات وجد فيها الطالب لاسيما في العناوين ومحاور الحزن، وهي كلها تدور حول موقف الذات الشاعرة من الكون، ومن المجتمع، ومن نفسها، حيث تظهر النزعة الدرامية لدى هؤلاء الشعراء الخمسة عبر ثلاثة أشكال: شكل يُحاول لف المجموعة كاملة بخيطٍ درامي كما عند أديب محمد، وعيسى الشيخ حسن، وشكل يربط المجموعة بدلالة نواة تتفرع عنها الدلالات المختلفة كما عند محمد المطرود، وشكل يلتفت إلى درامية القصيدة المفردة، كما عند منير خلف، وعارف حمزة.
المغامرة اللغوية في قصيدة التسعينيات
موتى من فرط الحياة
وإذا كان الناقد قد احتاج لخمسة شعراء ليؤكد المظهر الأول، من المظاهر الثمانية التي وجدها أنها تُشكّل ملامح القصيدة التي جاءت بعد ثمانينات القرن الماضي، فإنّ المظهر الثاني، أو الظاهرة الثانية التي هي “تحولات الأطلال في القصيدة الشعرية المعاصرة”، فقد كانت قصيدة “عم مساءً أيها الرجل الغريب” للشاعر طالب همّاش كافية برأيه ليدلل على هذه الظاهرة القديمة – الجديدة في الشعر العربي، التي اتخذت انزياحات معاصرة في الخطاب الشعري الحديث.. طالب همّاش التي عدّ الناقد تجربته إنها من أبرز الأصوات التي أفرزتها تجربة التسعينات الشعرية، فهو – كما يذكر الناقد – اختطّ لنفسه خطاً واضحاً قائماً على النزوع الرومانسي الغنائي الذي يُعبّر عن مكنونات النفس وعلاقتها بالكون من خلال مقولات الاغتراب والحزن والموت والألم، حيث تحضر “الأطلال” في هذا السياق الغنائي، ليس بالمعنى التقليدي لها، أي وقوف الشاعر عند آثار الديار التي خلفّها الأحبة، وإنما يستفيد الشاعر من هذا الفهم الذي يُشكّل نقطة انطلاق نحو الذات – الداخل ليُعمّق هذا المفهوم، فيصبح الوقوف على أطلال الروح، وأطلال الوحشة، وأطلال الحياة، وأطلال القيم، وأطلال الذاكرة، في دلالات لا تخلو من توليدات تنمّ عن رؤية واضحة في التعامل مع النص وفق تلك الرؤيا.
البنية اللغوية والأسلوبية للقصيدة الطويلة
حب الأنوثة والذكورة
من الظواهر التي تتبعها الباحث في هذه الدراسة، كانت “ظاهرة الحب.. بين أنوثة الرجل وذكورية المرأة “.. وفي هذه المقاربة النقدية، يعود مرةّ ثانية إلى الإختيارات الجماعية – ربما ليؤكد شمولية الظاهرة – واختار لهذه الغاية الشاعرات السوريات: “هالا محمد، رولا حسن، مرام المصري، سوزان إبراهيم، ليلى أورفلي، غالية خوجة، فاطمة كردية، وغادة فطوم”، ومن الشعراء سيأخذ قصائد لكلٍّ من صقر عليشي، ومحمد سعيد حمادة أنموذجاً، وفي المقارنة يُسجل الناقد الملاحظات الآتية على خطاب الحب عند الشاعرات والشعراء منها: أنسنة الخطاب عند الشاعرات بجنوحه عندهن نحو الواقع الثقافي، أو بجنوحه نحو التفصيلات الخالية من العمق عند الشاعرات والشعراء، الأمر الذي أسهم في كثير من النماذج في ضعف هذا الخطاب وتخليه عن عناصره الفنية، في حين أن حلمية الخطاب وجنوحه نحو الأسطرة لدى الشعراء أسهم في رفع القيمة الفنية.. لكن في المقابل هناك غنى خطاب الأنوثة بقيمٍ متعددة تحويلية وطقسية وقداسة وحلم وأمومة وخصب، في حين توقفت مقولة الرجل – الحبيب، عند العتاب واللوم والتقريع، أو المشارك التقليدي في صنع علاقة الحب (طرف مكمّل)، ثمّ هناك عجز خطاب الحب المقدّم من الشاعرات، على خلق حراك شعري مختلف في حركة الشعر السوري، نتيجة عدم قدرته على صنع تحوّلٍ جديد في هذا النمط مما أبقاه في سياق التابع فنياً، والذي لا يخرج عن السياق العادي والمألوف.
النزعة الرومانسية وخطاب الحب عبر تحولاته المختلفة
جيل التسعينات
لاشكّ أن محمد هايل الطالب في هذه الدراسة، لتجارب مجموعة من النصوص الشعرية السورية، قد وضع عتبة للدارسين لتجربة جيل التسعينيات، أو لنقل الشعر الذي أنتج خلال فترة التسعينيات وما تلاها، التي لاقت تجاهلاً يكاد يبدو عمداً، رغم أن ثمة الكثير من التحفظات التي قد يجدها متلقي دراسة الطالب، لاسيما في الاختيارات، وإطلاقه صفات معينة على تجربة شاعر أو شاعرة، ويخصّه بها وحده، مع أن ثمة الكثرين يشتركون معه في هذه “الخاصية” ومثل هذه النعوت قد نجد الكثير منها، لكن يبقى للطالب قصب السبق تقريباً في تناول قصيدة التسعينات وما بعدها التي جحدها الجميع حتى كادت أن تضيع في زواريب التشرد الثقافي.
الكاتب: محمد هايل الطالب
الكتاب: تحولات الدلالة في النص الشعري
الناشر: إصدار خاص