الموسيقا القومية نتاج إنساني فرضته المنعطفات التاريخية
تشرين- إدريس مراد:
“إن مهمة الموسيقي تتطلب منه أن يواجه مطالب الواقعية الحديثة، وأن تحمل أنغامه إحساساً عميقاً بالتفاؤل وتأكيداً قوياً بالجمال والكبرياء في البشر.. وأن يتساءل دائماً هذا السؤال: كيف أخدم قضايا السلام والديمقراطية والتقدم؟..” هذا ما قاله الموسيقي السوفييتي شوستاكوفيتش وهو من أشهر الموسيقيين في القرن العشرين، وصاحب القصيدة السيمفونية المغناة “إعدام ستيبان رازين” وسيمفونية “لينينغراد”، في مؤتمر الثقافي العالمي في نيويورك عام 1949، وهذا الكلام لم يأتِ من الفراغ طالما الموسيقا كإنتاج إنساني، تتأثر بالظروف الاجتماعية والتاريخية والسياسية.
للطبقة المخملية فقط
وفي الحقبة الكلاسيكية وما قبلها، كانت الموسيقا حكراً على الطبقة المخملية، فهي كانت من تحضر الآماسي في القاعات الفاخرة، وهي من تتطور في الموسيقا وتحسنها حسب غايتها.. بمعنى آخر، فنون الموسيقا الرفيعة، من أوبرا وسيمفونية أصبحت في ظل النظام الرأسمالي صناعة كأية صناعة، والموسيقا والموسيقيون خاضعون لشباك التذاكر، والدوق والكونتيسا،. اما الطبقات الفقيرة حينها من العمال والفلاحين والرعاة والصيادين، فكانت محرومة من التعليم ومن القراءة، وكذلك كانت محرومة من الاستمتاع بفن الموسيقا المتطور، فأنتجت هذه الفئات الفقيرة موسيقاها كحاجة إنسانية في صورة الأغاني الشعبية، وضروب الألحان الشعبية الخاصة بها، لتكون مادة موسيقية “خام” وثروة مهملة والتي لم تتناولها يد الفن المتطور، ولتكون فيما بعد المادة الأساسية في نهضة الموسيقا القومية في بداية القرن العشرين، برفقة المنعطفات التي حصلت في تاريخ البشرية، وبدء شرارة بعض الثورات من أجل المساواة وخلاص بعض الأمم من نير الاستعمار ومن ثم العمل من أجل العدالة الاجتماعية، لتتحرر معها الموسيقا، وتبدأ بعض الدول كالاتحاد السوفييتي وبعض الدول أوروبا الشرقية في رعاية موسيقاها، ورعاية الدولة معناها أن تقدمها إلى جميع الناس مهما كانت قدرتهم ومستوياتهم.
موسيقا من حياة الناس
من هنا بدأ يستمد الموسيقيون مادتهم من حياة الناس، من كفاحهم وأحلامهم ومشاعرهم، ودرسوا الأغاني والألحان والأساطير الشعبية، وجسدوها في أعمالهم الأوبرالية والسيمفونية، وبدأت خامات الفن الشعبي تعرف طريقها إلى الأساليب الفنية الحديثة لتخرج منها موسيقا تجمع بين سلامة الاستعمال اليومي للإنسان العادي، وبين خصوبة التجربة الإنسانية والاجتماعية وعمقها، أو ما يسمى بالتيار القومي في الموسيقا، وهذه المدرسة نشأت في روسيا، نتيجة طبيعية للتطور الاجتماعي والشعبي الذي استهدف تقارب الطبقات، ومن المراحل التي سبقت هذه المرحلة كانت ظهور الحركة النهلستية في الأدب والفن، لتكون أول مرحلة من مراحل صراعٍ جبّار، أسفر فيما بعد عن أعظم النتائج، وأول من استخدم لفظ نهلست هو الكاتب ترجنيف الذي عاش بين عامي 1818- 1883 في قصته الشهيرة “الآباء والأبناء” وأشار فيها إلى ضرورة تغيير الأوضاع الطبقية والتخلي عن المعتقدات الخرافية على أسس من العلم وتحرير الشعب.
الخمسة الكبار
وفي ميدان الموسيقا فقد ساهم الخمسة الكبار في إنشاء تيار نهليستي، بدأ من سنة 1830 حتى سنة 1908 ولقد بدأ ظهور هذ االتيار بظهور ميشيل جلينكا (1804- 1857) الذي درس الموسيقا صغيراً وأتمها في إيطاليا وألمانيا حيث درس التأليف، وعاد إلى روسيا ليؤلف لها موسيقا قومية شعبية وتبنى ما يعرف في تاريخ الموسيقا الروسية بالخمسة الكبار وهم “بالاكريف، سيزار كوى، ريمسكي كورساكوف، مسورجسكي، بورودين”.. ووضعوا شعارهم بأن الشعب هو الذي يخلق الموسيقا وإنما نحن نهذبها فقط، وعلى أكتاف هؤلاء نهضت الموسيقا في روسيا نهضة جبارة، والغريب أنهم كلهم بدؤوا هواة في الموسيقا إلى جانب أعمالهم الأصلية، منهم من كانوا ضباطاً، ومنهم من عملوا في مهنة التعليم، ولكنهم أسسوا للعالم المتحضر لوناً جديداً من ألوان الموسيقا، يعتمد قواعد التأليف ويستقي مادته من أغاني التي طالما رددها الناس، وحولوها إلى أعمالٍ ضخمة من الأوبرا والباليه والسيمفوني، حيث كانوا يتعاونون فيما بينهم، وغالباً ما يتولى كورساكوف مهمة التوزيع الآلي ليبقى صاحب مدرسة في علم التوزيع، واسلوبه يدرّس اليوم في أرقى معاهد العالم.
ملامح جديدة
نتيجة هذه العوامل الاجتماعية والثقافية، وجد في الساحة العالمية موسيقيون أيضاً، يجسدون الهوية القومية منهم “سميتانا ودوفرجاك” في تشيكوسلوفاكيا، و”جريج” في النرويج و”البينيز وجرانادوس” في أسبانيا، و”إلجار” في بريطانيا، و”ليست” في المجر و”شوبان” في بولندا، بل ولد الاتجاه القومي حماساً لدى مؤلفين من جنسيات أخرى جعلهم يكتبون موسيقا ذات صبغة قومية لبلاد غير بلادهم كمقطوعات برامز المجرية وجلنكا وريمسكي وبيزيه الأسبانية وأعمال إيطالية لتشايكوفسكي.
ومع نهاية القرن التاسع عشر كانت الموسيقا القومية حقيقة لاخلاف على حيويتها وخصوبتها، وأضافت للموسيقا الأوربية ملامح جديدة، وحقق هؤلاء هذا البعد الموسيقي من خلال الغوص بحثاً عن الجذور، فاكتشفوا منابعهم في أحد مصدرين هما الموسيقا الشعبية والفلكلور الموسيقي، حيث أصاخوا السمع لأغاني الفلاحين وعمقوا النظر في رقصاتهم وعنوا بآدابهم وأقاصيصهم وتقاليدهم المتوارثة، اكتشفوا آفاقاً في التكثيف النغمي هارمونياً وبوليفونياً، تختلف وتتعارض أحياناً مع اللغة الأكاديمية للموسيقا الأوروبية الفنية، وادهشتهم الإيقاعات الشعبية بموازينها الأحادية وتكويناتها المزدوجة.
الصورة الثانية
ولا ننسى الصورة الثانية للقومية كاتجاه رئيسي تبناه أصحابه والتزموا به ولكنهم تطورا به نحو مسالك واتجاهات تختلف في نضوجها وتفنينها وأساليبها باختلاف الشخصيات والمواهي وعلى رأسهم بارتوك ودي فاليا وفون وليامز وفيلالوبوس وشافيز، الذين تركوا في موسيقا المجر وأسبانيا وبريطانيا والبرازيل والمكسيك آثاراً باقية بأعمالهم القومية التي نبعت عن وجهات نظر وفلسفات اجتماعية ونظرة تاريخية تؤكد حقيقة جمالية وهي أن القومية ليست مناهضة أو مضادة للعالمية.