نتائج محفزة لتوطين بدائل وقاية فعالة…اتساع رقعة الحرائق الحراجية هذا العام والتوجه للتشجير بأنواع مقاومة
طرطوس – رفاه نيوف:
شكّلت حرائق الغابات في العام 2020 كابوساً حقيقياً لكل مهتم بالغابات في سورية، سواء كانت جهات رسمية أو مؤسسات أكاديمية أو أفراداً، إذ أتت على نسبة كبيرة جداً من أفضل ما لدينا من غابات، ولاسيما في محافظة اللاذقية حيث تتركز الحراج الأوجية بشكل رئيس.
واليوم يثير تزايد المساحات المحروقة في غاباتنا خلال العام الحالي، مقارنة بالعامين السابقين، الكثير من التساؤلات، فهل الإجراءات المتخذة من قبل الجهات المعنية قاصرة؟ وهل اللجان التي شكلت ووضعت توصياتها لاقت طريقها للتطبيق؟ أيضاً هل يمكننا تحويل نقمة الحرائق لنعمة؟ وكيف نحفّز السكان المجاورين للغابات ونربطهم بمنظومة حماية الغابة؟.
٢٥٧ دونماً المساحة المحروقة
بلغت مساحة الأراضي التي طالتها الحرائق الحراجية خلال العام الحالي ٢٠٢٣، حسبما بيّن رئيس دائرة الحراج في “زراعة طرطوس” الدكتور فادي ديوب ١٣٣ دونماً، بينما بلغت في العام ٢٠٢٢ الفائت 99.8 دونماً وفي العام ٢٠٢١ بلغت ٢٥ دونماً، وبهذا تكون المساحات المحروقة خلال السنوات الثلاث الماضية ٢٥٧ دونماً.
د. ديوب: أسباب متعددة لحرائق الغابات.. وإجراءات للحدّ منها
تعدّد الأسباب
ديوب ذكر أسباباً عدة للحرائق، منها ما هو ناتج عن الإهمال من زوار الموارد الحراجية، وقلة احتراز من أصحاب العقارات الزراعية المجاورة للغابات، ومنها ناتج عن أسباب طبيعية، وعن فعل متعمد.
إجراءات للحدّ من الحرائق
وأشار ديوب إلى أن دائرة الحراج اتخذت العديد من الإجراءات، منها إنشاء عدد من فرق الإطفاء المكانية في عدد من المواقع الحراجية الحساسة بطرطوس كـ(محمية سرستان، غابة تلة، النبي صالح، والنبي متى…) وتمت زيادة عدد الحراس الحراجيين والخفراء، وتفعيل اللجان المحلية المشكلة بالتنسيق مع الوحدات الإدارية ورؤساء الجمعيات الفلاحية، كما تمت زيادة عدد اللقاءات و ورشات التوعية لخطورة الحرائق في كل مناطق المحافظة والوقاية منها وطرق إخمادها، وتسهيل عمل فرق الإطفاء، وتقديم المؤازرة اللازمة لها، وإجراء ندوات توعوية في المدارس، إضافة لتنفيذ خطط سنوية لشق وتعزيل الطرق الحراجية.
حماية المواقع المحروقة
ولفت ديوب إلى أنه تم التوجيه لحماية المناطق المحروقة وعدم التدخل بها، ومنع التعديات عليها وحمايتها لمدة عامين للحفاظ عليها من الانجراف، والمحافظة على التجدد الطبيعي بها، ويتم حالياً التوجه لتشجير هذه المواقع بأنواع مقاومة للحرائق، ومنها الخروب والغار، ذات الأهمية الاقتصادية للمجتمع المحلي وسكان جوار المواقع الحراجية.
إجراءات متواضعة
من جانبه، يرى الدكتور محمود علي أستاذ البيئة وحماية الغابات في جامعة تشرين، أنه إذا أخذنا بالحسبان ضعف إمكاناتنا في مكافحة الحرائق بسبب تدمير نسبة كبيرة من عربات الإطفاء وخروج عربات أخرى من الخدمة بسبب ظروف الحصار، و الطبيعة الطبوغرافية لأغلبية المواقع الحراجية وصعوبة الوصول إلى الكثير منها عند اندلاع حرائق فيها، وطبيعة الغطاء النباتي العالي القابلية للاشتعال، نستطيع القول إن الإجراءات الوقائية من الحرائق المتخذة من قبل وزارة الزراعة أقل من متواضعة، وهذا يعود بالدرجة الأولى إلى تواضع الخطط التي تصاغ في مديرية الحراج وضعف الموارد التي تخصص لذلك.
خطط خجولة
وأضاف: على سبيل المثال، الخطة السنوية لأعمال التربية والتنمية في محافظة اللاذقية (المحافظة الأهم حراجياً) هي ألف هكتار، وحسب سجلات الوزارة يوجد أكثر من ستين ألف هكتار من الغابات في هذه المحافظة، أي لنعود إلى كل موقع من أجل أعمال التربية والتنمية، التي هي من صلب الإجراءات الوقائية من الحرائق، فإننا نحتاج إلى دورة مدتها ستون عاماً، وهذا غير مقبول إطلاقاً، والحرائق لن تنتظرنا.
د. علي: الإجراءات الوقائية المتخذة أقل من متواضعة وحسب خطط “الزراعة” فإننا نحتاج ستين عاماً لتنفيذها!
إجراءات وقائية
وأوضح أن من بين الإجراءات الوقائية التي يجب أن تتخذ، الإبقاء على مواقع الخطورة العالية نظيفة من الوقود الطبيعي (المواد العضوية القابلة للاشتعال)، تنظيف جوانب الطرقات المارة في الغابات، الإبقاء على حرم خطوط الكهرباء وخزانات الكهرباء وغيرها من البنى التحتية الموجودة في الغابات نظيفة من جميع المواد القابلة للاشتعال، تنظيف حرم السكك الحديدية من المواد القابلة للاشتعال، تنظيف حرم الأراضي الزراعية المتداخلة مع الغابات و ضبط الأنشطة الزراعية في فترات الخطورة العالية.
وهذا الأمر شبه غائب، بالدرجة الأولى لضعف الموارد المخصصة لهذه الأعمال، ولعدم التزام الجهات الوصائية على الطرقات، خطوط الكهرباء، محطات ضخ الماء، السكك الحديدية، بالقيام بما يترتب عليها في هذا المجال، مع العلم أن وزارة الزراعة تستطيع إلزامهم بذلك بموجب قانون الحراج (المادة 16 من قانون الحراج رقم 6 للعام 2018)، ولكنها لم تفعّل هذه المادة بالشكل الصحيح (يتم الاكتفاء بتسطير كتب إلى هذه الجهات من دون تنفيذ في أكثر الأحيان).
معالجة واقع الشبكات الكهربائية ضمن المواقع الحراجية والتي كانت سبباً في نشوب عدد من الحرائق ومنها حريق مشقيتا، التوسع بإنشاء الطرق الحراجية، كي تتمكن الجهات المعنية من إيصال فرق ومعدات الإطفاء بالسرعة الكلية في حال اندلاع حريق.
وأضاف د. علي: إن الموارد الضخمة والجهود الجبارة التي خصصت لإخماد حريق مشقيتا عام 2023 مثلاً، لو خصصت لتنفيذ الإجراءات الوقائية المناسبة، لكانت كافية لتحصين غابات المنطقة الساحلية ضد الحرائق وإدارتها و جعلها في مصاف غابات الدول الأوروبية.
توصيات في مهب الريح
يتابع الدكتور علي أنه بعد هذه الموجة غير المسبوقة من الحرائق، شكِّلت لجانٌ علمية وفنية لتقديم مقترحات وتوصيات لحماية الغابات، و لجانٌ أخرى لتقييم المواقع المحروقة وتقديم المقترحات والتوصيات اللازمة لإعادة تأهيل هذه المواقع وضمان عودة الغطاء النباتي الطبيعي، و قامت اللجان بالمطلوب منها وقدمت مقترحاتها إلى الجهات المعنية، ولكن بكل أسف لم يؤخذ بما خلصت إليه، مع العلم أن هذه اللجان ضمت أساتذة جامعيين مختصين، ومهندسين وفنيين من دوائر الحراج، مشهود لهم في مجال العمل الحراجي.
هذه اللجان أوصت بإزالة الجذوع المحروقة بالسرعة الكلية وحماية جميع المواقع المحروقة ومراقبتها بشكل دوري للوقوف على تطور عملية التعاقب النباتي وعودة الغابات وتحديد الإجراءات الضرورية عند الحاجة لتسريع عودة الغابة، ولكن لم يؤخذ بها، بالرغم من المبررات العلمية لمثل هذه الإجراءات و التي نذكر منها:
بقايا الحرائق سوف تشكل مرتعاً للحشرات والأمراض في السنوات القادمة، وستدفع غاباتنا الثمن كما بعض البساتين والحقول المجاورة، لأن بعض الحشرات والأمراض متعددة العوائل (غابات، أشجار فاكهة، محاصيل)، لقد شاهدنا خلال جولاتنا الحراجية مؤخراً انتشار الخنافس بأعداد كبيرة جداً، وكذلك الإصابات الفطرية.
الثمن باهظ
ولفت د. علي إلى أنه في حال اندلعت الحرائق مجدداً في المواقع المحروقة سابقاً، سيكون الثمن باهظاً جداً، ففي حرائق العام 2020 كانت البذور على الأشجار، وهذه البذور شكلت مصدراً للتجدد الطبيعي، لكن لو حصل حريق مجدداً قبل عودة الغابة ووصولها إلى مرحلة النضج و تشكل المخاريط ونضجها لن يكون هناك مصدر للبذور، وبالتالي لن يكون بالمقدور إعادة تجديد الغابات من تلقاء نفسها، الأمر الذي سيحتم استصلاح بعض المواقع وإعادة تشجيرها وما يترتب على ذلك من تحريك للتربة ومن ثم انجرافها، وتكاليف إعادة التشجير والجهد اللازم، والأمر سيتطلب الكثير من الوقت وسيكون كارثياً بكل معنى الكلمة وقد نفقد إلى الأبد نسبة من هذه الغابات.
وبرأي د. علي، لا يمكن للأسف تحويل نقمة الحرائق إلى نعمة، لكن بالإمكان الاستفادة من الجذوع المحروقة، وحماية المواقع المحروقة والقيام بأعمال تربية وتنمية في قادم السنوات (حسب ظروف كل موقع) بما يضمن تسريع عودة الغطاء النباتي الطبيعي.
إشراك المجتمع المحلي
لا شك في أن إشراك المجتمع المحلي في إدارة الغابات، أمر في غاية الأهمية لتحقيق الحماية المطلوبة للغابات من كل التعديات والمخاطر، ولا سيما حماية الغابات من الحرائق، حسب د. علي، وتتواجد الكتل الرئيسة للغابات السورية في جوار المجتمعات المحلية، كما أن العديد من المنازل موجودة عملياً ضمن الغابات أو ملاصقة لها، إضافة إلى وجود عدد كبير جداً من الحيازات الزراعية الصغيرة المساحة المتناثرة بين المواقع الحراجية، ولذلك تؤثر الأنشطة الزراعية المختلفة على الغابات المجاورة سواء عن قصد أو غير قصد (إهمال).
الحاجة عدو لغاباتنا
ويضيف د. علي: المجتمعات المحلية سمتها الأساسية انخفاض المستوى المعيشي، وخاصة في أيامنا هذه، وحاجتها ماسة لأي مصدر دخل إضافي يساعد في تأمين الحد الأدنى من متطلبات العيش الكريم، ولذلك لا يمكننا لوم هذه الأسر عندما تحاول تأمين بعض الأحطاب والنباتات الطبية والعطرية والنباتات الصالحة للأكل وبعض المواد العلفية لحيواناتهم (وقانون الحراج يسمح بذلك ضمن اشتراطات محددة)، من دون معالجة مشكلة المستوى المعيشي في هذه المناطق، فهو العدو الأعتى لغاباتنا في الوقت الحاضر، وبهذا يكمن الحل في إشراك السكان المحليين في إدارة هذه الغابات مقابل دخل مقبول من منتجات الغابات، ولاسيما من مخلفات أعمال التربية والتمنية (التقليم و التفريد و التنظيف)، ومن مخلفات الحرائق ومن النباتات الطبية والعطرية والمأكولة والعلفية مقابل كسب ودّ ومساعدة هذه المجتمعات في حماية الغابات من جميع التعديات والإبلاغ عن الحرائق والمساعدة في إخمادها إن حصلت، فعندما تصبح الغابة مصدر دخل لجوارها، و هذا الدخل سيختفي بزوالها، سنجد السكان المحليين متعاونين مع السلطات الوصائية على الغابات وأكثر حرصاً عليها من السابق.
الموارد التي خصصت لإخماد حريق مشقيتا عام 2023 كانت كافية لتحصين غابات المنطقة الساحلية ضد الحرائق وإدارتها وجعلها في مصافِّ غابات الدول الأوروبية
الارتقاء بالأنشطة الزراعية
إضافة إلى ما ذكر، يرى د. علي أنه لا بدّ من العمل مع المجتمعات المحلية للارتقاء بأنشطتها الزراعية في المناطق المتداخلة أو المجاورة للغابات، بحيث لا تتسبب هذه الأنشطة بحرائق لمزارعهم و للغابات، إذ من المعروف أن نسبة لا بأس بها من حرائق الغابات في سورية تنتج عن التحريق الزراعي الذي يتم في أوقات الخطورة العالية ومن دون اتخاذ الحد الأدنى من الاحتياطات لمنع خروج النيران عن السيطرة و التعامل معها لو حصلت، و يمكن الوصول إلى ذلك جزئياً على الأقل من خلال تنفيذ أيام حقلية في القرى المجاورة للغابات و تعليم المزارعين كيفية التخلص من المخلفات الزراعية بطرق آمنة (تخمير هذه المخلفات مثلاً بحيث تعود بعائد اقتصادي للمزارع نفسه)، وفي حال اللجوء للتخلص منها بالحرق، يجب إعلام المزارع بالاحتياطات اللازم اتخاذها أثناء التحريق وبالأوقات المناسبة (أوقات الخطورة المنخفضة من الحرائق)، كما يجب عدم السماح بالتحريق إلّا بمعرفة السلطات الحراجية أو البلدية على الأقل، وألّا يتم من دون الحصول على إذن رسمي بذلك وتوقيع المزارع على تعهد باتخاذ جميع التدابير والاحتياطات اللازمة أثناء القيام بعملية التحريق و تحمل مسؤولية ما قد ينجم عن ذلك.
إشراك المجتمع المحلي لتحقيق الحماية المطلوبة لأن الحاجة هي العدو الأعتى لغاباتنا في الوقت الحاضر
تشريع التفحيم
كثيراً ما يتسبب التفحيم غير المرخص بحرائق للغابات لأن من يقوم بعملية التفحيم يجهز “المترب” ويبدأ بإشعال النار ويغادر خوفاً من الضابطة الحراجية، ولذلك قد “ينفجر” المترب، ولاسيما عند وجود رياح وتنتقل النار إلى الأشجار المجاورة. ربما يكون العلاج، حسب د. علي من خلال تشريع التفحيم بكميات محددة وفق اشتراطات معينة من الحراج وبإشراف عناصر الحراج وبما لا يتسبب بحرائق ولا يضرّ بالغابة، وهذا ممكن. و إذا تم ذلك بشكل مدروس وصحيح، سيحدّ من الحرائق الناتجة عن التفحيم و يقلل من خطورة الحرائق التي قد تبدأ مستقبلاً، فإذا تم إجراء عمليات تقليم و تنظيف أرض الغابات من الجنبات والجنيبات وتفحيم ما يصلح منها للتفحيم، فمن شأن ذلك تخفيض حمولة وحدة المساحة من الوقود الطبيعي الخطر، وخاصة أن أغلبية الحرائق تبدأ بهذا الوقود (حرائق سطحية).
أخيراً :
إن الحفاظ على غاباتنا من التعديات و الحرائق، حفاظ على بقائنا فهل نحسن الخيارات لنصل إلى حماية بيئتنا وبالتالي استمرار الحياة على كوكبنا؟.