سمر تغلبي بين وتد الخليل وأسبابه عين على الحبّ وعين على السّراب
تشرين – راوية زاهر:
“إذاً خبئني
كن واهماً إن شئتَ لكن
لا سبيلَ لدفنِ هاتيكَ الحكاية
خارج العينين
ولا سبيلَ لردّ إصبعها المناوئ
أن يشيرَ لدمعةٍ
تأبى بأن تروي رُبى الخدّين
إن شئتَ تخفي قصتي
أطبقْ عليّ منابت الأهداب في الجفنين
واحبسني هناك
فلن أثورَ ولن أُثارَ
أحلى انعتاقاتِ الهوى
حلمٌ
بأن نبقى أُسارى.”
(قليلٌ من الحبّ….كثيرٌ من السّراب)، مجموعة شعرية للكاتبة سمر أحمد تغلبي، الصّادرة عن الهيئة العامة السورية للكتاب بعد ديوانين سابقين (مخاض إثم، وقميص لشغف)، وآخرين تحت الطبع (قبلة على جبين قاسيون، وكي لا تموت قصائدي) ومجموعة قصصية بعنوان قوالب من ورق.
و(قليلٌ من الحبّ… كثيرٌ من السّراب)، عنوان لمجموعة شعرية حوت بين وريقاتها عشرين نصّاً شعريّاً موزّعاً بين الشعر العمودي وقصيدة النثر، لتبدع الشاعرة مع أوزان الخليل ببسيطه ووافره، وتنوّعُ في أغراض قصيدة نثرها، تحزن فترثي، في حقولٍ ووله، تعشق فتتبتل بهوى يوسفي، ويطلق الحبيبُ فينيقَ روحها ويعيد إمساكها بكلتا يديه..
حيث جاء العنوان حمل تضاداً صارخاً يصارع بين حبّ قليلٍ حائر وعالمٍ واسع من الخيالات والأوهام، تتأرجح بين عمرٍ وقهر، لتميل قصائد الكتاب إلى عوالم بأنماطٍ وصفية سردية وبأسلوب شائق.
كما ينوء الحزن على بوابات القصيد، ترتله الشاعرة وجعاً؛ فيتراءى لنا كشطآنٍ من الآلام في أكثر من مكان وأكثر من موقع وقد قالت:
“ما بالهُ وجعي يحنو على وجعي
كأنّ حمى الأسى ترسو بشاطئيهِ
هذا اعترافي يمدّ الطّهر في شُرفٍ
كالياسمين ولا عطر يعزيه.”
حيث الطبيعة تشاركها حزنها فترميه الليالي جمراً معتقاً في قوارير أنينها.. وفي مشهديةٍ عاليةِ الشهقة تأسرك بانخطافٍ سريّ، وكأنك أمام لقطات سينمائية تعتصر القلب تشوّقاً وألماً وانكساراً، فكانت قطعة شعرية موشّاةً بحكائية لافتة، فصوّرت لحظات لقاء الحبيب مع عشيقة سابقة على مرأى عينيها ، فبدا حنين اللقاء شاهقاً بالهمس واللمس ويشتعل من خلف ستارات العناق في زمنٍ قرمزي قديم، فيعيد الشاعرة إلى الولوج في عالم السراب أمام حقيقةٍ ألقتْ عصاها بموتٍ رحيم.
“تراكَ تذكرت قلبي وأنتَ تعانقها
وتعيد الحنين إليها
من الهمس واللمس
والقبلاتِ التي
ستعيدك للزمن القرمزي القديم؟”..
وفي الحديث عن اللغة في المجموعة؛ فقد جاءت لغة الشاعرة تتجول بك في عالمٍ مجازي رفيع الحضور، وقد مالت إلى الذاتية سواء باستخدامها ضمير المتكلم من قبيل (رحتُ، أمدّد روحي، أعدني إليّ، خبئني،) أو من خلال استخدامها لظاهرة الالتفات فتنقلت بين ضمير المتكلم والمخاطب في محاولة لتنشيط القارئ وإبعاده عن السأم والملل.. وجاء معجمها اللغوي مستمداً من الطبيعة والفصول وحبر اليراع المغموس في حقول البنفسج وحطام الحكايات، (الزهر، الليل، البنفسج، الياسمين، التّرب، أزهار الحقول، فراشات)..
وقد تلاعبت بالمجاز وحلقت به عالياً كفيض من حقول الريح، فكانت المجموعة تعجّ بالصور البيانية والتشبيهات بأنواعها، ووفّقت باستخدام ظاهرتي التجسيد (محبرة الأماني) وكذلك التشخيص بدقة،
(لعلّ الورد يصحو ، يلوّح الحبر، يشقى السّحابُ، خاطري ملّ حزني) استعارات مكنيّة ذُكر فيها المشبه وحذف المشبه به وهو الإنسان مع ترك شيء من لوازمه كقرينة للمعنى المراد منه، ومن أهم وظائفها التوضيح، معبرةً بذلك عن صدق المعنى لإقناع المتلقي.
كما برز التشبيه من قبيل (وحش المسافة، تفّاح الهوى، حبر البنفسج) وهي من نوع البليغ الإضافي.. (هي جنة الرحمن، أنا غيم) تشبيهات بليغة.. ولا يخفى استخدام الشاعرة لتقنية التناص، التي أعادتنا إلى قصة سيدنا يوسف في أكثر من وجه، من ناحية الجب، والجمال اليوسفي، وزليخة مليكة يوسف.
(لتغدو زليخة بعد التّجلي
مليكة يوسف دون قميصٍ
إلى اللانتهاءْ)
ولابدّ من الوقوف على استخدام الشاعرة لأسلوب الإنشاء، كالنداء، والاستفهام والأمر (ارحلْ خذْ)، و(ماذا أقول وعين السطر ترصدني
هل يعصرُ الدّمع عيناً تجافيه؟) استفهام، وكانت الغاية من استخدامه الإيحاء بالانفعالات والاضطراب النفسي والجسدي الذي تعانيه الشاعرة .. أما الخبر فكان الأنسب لتقرير الفكرة مثل: (يذكي مقام الصّبر في أرقي).
أما الموسيقا، فتنوعت بين داخلية وخارجية.. وتنوعت كذلك القوافي حسب بحور شعرها، وحروف الروي في الشعر العمودي.. كقصيدة ألفتُ توهمي:
“على درب الحبيب فقدتُ دنّي
وعاقرتُ الخطايا والتّجنّي
أراني في الغرام طريد حسنٍ
وفي الأشواق مشدوداً لظنّي”
هذا القصيدة من البحر الوافر
وتفعيلاته : (مفاعلتن مفاعلتن فعولن).. بحر بتفعيلاتٍ طويلة تتسع لتعبّر عن فيض الشوق والعشق والوهم.. قافيته :/دنيّ/ المتحرك قبل آخر ساكنين.
أمّا حرف روّيه فهو النون المشبعة ياءً، وقد استخدمت النون لتعبر عن حالة الانكسار والحزن الذي غلب على نفسيّة الشّاعرة..
الكتاب: قليلٌ من الحبّ….كثيرٌ من السّراب
الكاتب: سمر تغلبي
الناشر: الهيئة العامة السورية للكتاب