تبدو للوهلة الأولى بسيطة مبادرات نوعية.. مدير وعاملان يقومون بإصلاح مقاعد وأبواب في مدارس الحسكة

الحسكة- خليل اقطيني:

ثمة الكثير من القضايا، تبدو للوهلة الأولى بسيطة ولا يكاد يلتفت إليها أحد، لكنها في حقيقة الأمر على قدر كبير من الأهمية بالنسبة للناس والمجتمع.
من هنا نجد بعض المبادرات الفردية التي يُقدِم عليها شخص أو عدد من الأشخاص، تؤدي دوراً مهماً وتحدث فرقاً وتترك أثراً في المجتمع، بالرغم من بساطتها أو محدوديتها.
بناء على هذا الفهم، نستطيع أن نُقيّم المبادرات النوعية التي قدمها عدد من العاملين في بعض مدارس الحسكة بشكل فردي. فهذه المبادرات على الرغم من كونها فردية، فإنها تظل نوعية، وذلك لأنها انطوت على فكرة إبداعية متميزة، ورؤية تحمل في مضمونها تغيير الوضع الحالي نحو الأفضل ومعالجة مشكلاته.
فكرة انطلقت من عقلٍ خلّاق، وانبثقت من حدثٍ معيّن لتحوله إلى فعلٍ يؤدي دوراً لإحداث تأثير ما في حياة الناس والمجتمع.
ورؤية عَبّرَت عن وطنٍ حيّ قادر على خلق الأفكار والعقول النيّرة، وقادر على الدفع بالأشخاص المستعدين للتضحية بوقتهم وجهدهم، من أجل تحقيق نفع للآخرين، على الرغم من الظروف الصعبة – بجميع أشكالها ومستوياتها – التي يمر فيها هذا الوطن.
فالمبادرات النوعية (الفردية والمجتمعية) لا تأتي من تلقاء نفسها، وإنما تنبثق من وطنٍ يهتمُّ بالإبداع والإتقان والتميز، في أداء المؤسسات والأفراد على حد سواء. هذا الاهتمام الذي أصبح عنوان الصمود في وجه الإرهاب والاحتلال، وصنوان النجاح الذي لا يصنعه إلا الذين يمتلكون الإبداع ويتمتعون بمهارات الأداء المتميز.
وبما إن المبادرات التي قدمها عدد من العاملين في مدارس الحسكة، تضمنت أعمالاً ومهام ومشروعاتٍ كانت ضرورية لإنجاز أهداف نبيلة، تُحدِث فرقاً وتترك أثراً إيجابياً. يصبح من اليسير إدراك أهمية هذه المبادرات في الحياة والمجتمع.
من هياكل معدنية إلى مقاعد دراسية
أولى تلك المبادرات، هي قيام مدير إحدى المدارس في ريف الحسكة، بتأمين مقاعد لتلاميذ مدرسته وإصلاحها بنفسه، وتحويلها من مجرد هياكل معدنية متهالكة، إلى مقاعد حيّة تنبض بالمعرفة.
المدير هو محمد أحمد الحسن مدير مدرسة خربة جاموس المحدثة، التي تم افتتاحها العام الدراسي الماضي بثلاث شعب صفية على أساس عدد التلاميذ حوالي 100 تلميذ فقط. لكن ما إن علم أهالي القرية والقرى المجاورة بافتتاح هذه المدرسة، حتى اندفعوا بإقبال منقطع النظير إلى تسجيل أبنائهم فيها، ولاسيما أنها تتبع لوزارة التربية في الجمهورية العربية السورية. وخلال زمن قياسي تجاوز عدد التلاميذ الضعف، واصلاً إلى ٢٣٠ تلميذاً وتلميذة. انطلاقاً من حب هؤلاء التلاميذ وذويهم للعلم من جهة، ورغبتهم بتعلم المنهاج المعد من قبل وزارة التربية في الوطن الذي انتموا إليه وأحبوه من جهة ثانية. في خطوة تعبرُ عن ثباتٍ وصرخة في وجه كل من يريد فرض مناهج مغايرة لمناهج الوطن.
وإزاء هذا الموقف الوطني والاندفاع المثير نحو مناهل العلم، لم يكن أمام إدارة المدرسة من بدّ، سوى استيعاب جميع التلاميذ، وتم إكمال العام الدراسي الماضي حتى نهايته لكن بصعوبة. لتجد إدارة المدرسة نفسها أمام مشكلة جديدة أكبر حجماً في العام الدراسي الحالي، من خلال تسجيل 104 تلاميذ جدد في الصف الأول فقط. ليصل عدد التلاميذ إلى 348 تلميذاً وتلميذة من الصف الأول حتى الصف السادس، ولم تعد المدرسة المحدودة المكان والإمكانيات تستوعب هذا العدد.
وهنا كان لابد من مبادرة ما لإنقاذ الموقف، هذه المبادرة تضافرت فيها جهود مدير المدرسة محمد أحمد الحسن والموجهين التربويين، وانتهت إلى تأمين شعبتين صفيتين بالقرب من المدرسة، بالتعاون مع أهالي القرية.
ورغم إن هذه المبادرة رفعت عدد الشعب الصفية إلى خمس شعب، فإنها بقيت ناقصة. وذلك لأن الشعب الجديدة بحاجة إلى مقاعد، ولا مقاعد في المدرسة. فما هو الحل؟ وكيف السبيل لتأمين المقاعد؟.
مديرية التربية وافقت على تزويد مدرسة خربة جاموس المحدثة بعدد من المقاعد من مدرسة دبي الواقعة بالقرب من جبل كوكب في ريف الحسكة الشرقي. وعلى الفور توجه مدير المدرسة إلى هناك، ليُفاجأ لدرجة الصدمة، بأن المقاعد المقصودة ما هي إلا مجرد هياكل معدنية وبضع قطع متناثرة من الخشب، ليقع في “حيص بيص”، ويصبح في حيرة من أمره، أيترك الهياكل المعدنية في مدرسة دبي، ويعود جارّاً أذيال الخيبة إلى مدرسته خربة جاموس خالي الوفاض، أم يستلمها ثم يرى ما هو فاعل بها؟.
ويذكر المعلم الحسن أنه لم يستغرق الكثير من الوقت ليحسم أمره، ويحمل تلك الهياكل المعدنية إلى قريته، ويضعها في باحة المدرسة، ويشرع بإصلاحها بنفسه، وبما توافر لديه من عدة ومواد ومستلزمات، مقعداً إثر آخر، إلى أن أصبحت قابلة للاستخدام.

ويتابع والفرحة لا تكاد تسعه: والآن كلما أرى تلاميذ مدرستي مداومين في خمس شعب صفية، جالسين كلهم على مقاعد دراسية نظامية، أشعر بالفخر والاعتزاز، لأن تعبي لم يذهب هدراً وأرى نتائجه ملموسة أمام ناظري.
ويؤكد أنه يشعر بالفخر والاعتزاز أكثر، لأنه يرى الوطن ورغم كل ما يعتريه من ويلات يواصل تشييد بناء نموذجي حديث لمدرسته خربة جاموس، هذا البناء الذي تقوم مديرية الخدمات الفنية بتشييده حالياً في القرية، والمؤلف من ست شعب صفية وغرفتين إداريتين بقيمة نحو نصف مليار ليرة.
ويضيف: أنا أرى أن المبادرة التي قمت بها هي واجب عليّ، تجاه مدرستي ومجتمعي من أبناء قريتي ووطني. لأننا في ظرف صعب يتطلب منا أن نبادر إلى إصلاح أي خلل كلّ من مكان عمله، وألا نتردد بتقديم أي مبادرة تؤدي إلى تقدم المجتمع ونجاحه، وتحقق الثبات في وجه الاحتلال والإرهاب.
واجب وطني
المبادرة الثانية نفذها موظف نموذجي من موظفي الفئة الخامسة في مدرسة الشهيد زهدي حنا الحلقة الأولى. وتتمثّل بمهمة ترميم وصيانة مقاعد وأبواب مدرسته، من تلقاء نفسه وعلى نفقته الخاصة.
الموظف يدعى خضر صالح البري، يعمل نجار موبيليا إلى جانب وظيفته الحكومية في مدرسة الشهيد عبد الله القادري، ضمن تجمع مدارس الشهيد زهدي كريم حنا في مدينة الحسكة، وذلك لكي يستطيع الصمود في وجه حرب التجويع التي يتعرض لها الشعب السوري.
البري وضع خبرته وعمله الخاص بنجارة الموبيليا تحت تصرف مدرسته، وبادر إلى إحضار عدّته والمستلزمات الضرورية للعمل من محله، وقام بإصلاح الأبواب والمقاعد والطاولات المكتبية في المدرسة.
ويؤكد: المبادرة التي قدمتها هي تبرع مني للمدرسة، لأنها بيتي الثاني وتلاميذها كأولادي، وهذه الأعمال أقدمها بشكل مستمر للمدرسة عند حاجتها لها. علماً أن هذه المبادرات هي واجب علينا للوطن في ظل الظروف التي يمر فيها.
تطوّعية بسيطة لكن مؤثرة
وأثناء إعداد هذه المادة الصحفية أخبرنا مدير التربية المساعد لشؤون التعليم الأساسي أحمد العلي، عن موظف متميز آخر من موظفي الفئة الخامسة في مدرسة الشهيد وليد نوفل في مدينة الحسكة، يدعى محمد رمضان.

العلي: المبادرات أحدثت فرقاً ونفذها عدد من ذوي الهمم العالية والأدوار الفاعلة والأهداف الشامخة

هذا الموظف يعمل أيضاً نجاراً إلى جانب وظيفته الحكومية، وعندما لاحظ أن مقاعد وكراسي المدرسة التي يعمل فيها بحاجة إلى إصلاح، بادر إلى إحضار مولدة محله وورشته وقام بإصلاحها بنفسه وعلى نفقته الخاصة، بحضور العلي وإشرافه.
ويلفت العلي إلى أن المبادرات التي سلطنا عليها الضوء في السطور السابقة تتميز ببساطتها وعدم تعقيدها، ولم تكن بحاجة إلا لوجود أصحابها المبادرين، بكل تفكيرهم ومهاراتهم وإحساسهم العالي بالمسؤولية المجتمعية والوطنية، لتحقيق الأثر المرغوب فيه في المجتمع وإحداث التغيير المطلوب.
وهي مبادرات تطوعية، نفذها مبادرون من مستويات وظيفية وثقافية وعلمية مختلفة، من المدير ذي الفئة الأولى إلى الموظف البسيط من الفئة الخامسة. الأمر الذي يبين أن المبادرات ليست حكراً على أحد، بل هي صفة إيجابية يشترك فيها أصحاب الهمم العالية والأدوار الفاعلة والأهداف الشامخة، من الرجال والنساء، والصغار والكبار.
وشدد العلي على أن هذا النوع من العمل يؤثر إيجاباً في تطور المجتمع ويدفعه نحو الأمام، بالإضافة إلى أنه يخفف العبء عن الكثير من المؤسسات الرسمية في الدولة، ويؤدي إلى زيادة الإحساس بالانتماء إلى الوطن من خلال تفعيل دور المواطن فيه. ويحافظ على تطور المجتمع وجعله مجتمعاً نظيفاً وخالياً من الأفعال التي ينكرها الجميع ومملوءاً في الوقت نفسه بالطاقة الإيجابية.
والأهم من كل هذا وذاك في نظر العلي، أن هذه المبادرات تؤكد أنه مازال هناك من أبناء سورية عموماً ومحافظة الحسكة خصوصاً، من يمتطي صهوة التميز والإبداع في تقديم المبادرات الإيجابية الفاعلة في حياة الوطن والمجتمع، في تحدٍّ صارخ لكل الظروف الصعبة التي تمر فيها البلاد.

صورخان: المبادرات النوعية لا تنطلق إلا من مجتمع نابض بالحياة

مجتمع نابض بالحياة
مديرة التربية إلهام صورخان أشارت إلى أن المديرية لا تنظر بعين التقدير إلى هذه المبادرات النوعية، من موظفين نذروا أنفسهم لخدمة مجتمعهم ووطنهم فحسب، وإنما تشجع على هذه المبادرات الخلّاقة، وتعمل على توفير البيئة الملائمة لإنباتها ونموّها، لأن إطلاق هذه المبادرات النوعية يعني أن المجتمع الذي تنطلق منه وإليه مازال نابضاً بالحياة، رغم كل المحاولات الرامية لقتله.

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار