لأنّ ملاذها سقفُ “بيت قصيد” توهجُ قصيدة المرأة السوريّة خلال سنوات الحرب كانت الأكثر بَوحاً.. فهل قدمت شعراً له ملامحه الخاصة؟
دمشق- علي الرّاعي:
كثيرةٌ هي الأنساق الإبداعية التي غيرت دروب مساراتها، هنا تنعطف، وهناك تكوّع، ثم في الكثير من الأحيان تولد منها أشكال إبداعية أخرى، قد تبقى من فرعها، أو تُفارق لتغرس شجرتها وتُنتج فاكهتها المُغايرة.
في سنيّ الحرب الطويلة على سوريّة؛ الكثير من الأنهار غيرت مجاريها، وأحياناً ضاقت بضفافها.. ولعلّ أكثر ما لفت الانتباه إليه؛ توهج القصيدة النسوية لاسيما على صعيد الكم؛ فهل كانت دوافع هذه الشعرية المسفوحة على البياض؛ لأن المرأة كانت أكثر الخاسرين في هذه الحرب، ومن ثمّ كان ملاذها اللغة وخيمة مجاز تقيها شرّ رصاصة طائشة، أو جدار استعارة احتمت خلفه خطر قذيفة هاون؟ وفي هذا “النثر” الطويل؛ كيف يُمكن للمتلقي أن يُقيّم شواغل شعر النساء خلال سنوات المحنة التي بدأت وجعها منذ بداية عشرية الحرب، ومن ثم جودة تلك الكتابة وقيمتها؟ لنُجيب على تلك التساؤلات كان لابد من معرفة رأي شاعرات قدمن نتاجهنّ خلال سنيّ الحرب نفسها، ولم يُعرف عنهنّ كتابة القصيدة قبل ذلك، على الأقل إصدار نتاجهنّ في مجموعات شعرية، أو نشره من خلال وسائل الاتصال المُختلفة كان خلال سنيّ الحرب.
فعلنَها برفقٍ وحذرٍ
وككلِّ مرافقِ الحياةِ لابدَّ سترخي الحربُ ظلالَها على الأدبِ, وغالباً ما يكون أثرها مباشراً وقوياً على الأدباءِ المنهمكينَ معَ أطرافِ النزاعِ, هؤلاءِ تأتي أعمالُهم عاطفيةً متشنجةً وتُعبّرُ عن انتماءاتِهم ليس إلّا. أمّا التوثيقُ لمرحلةِ الحربِ فغالباً ما يُنجَزُ بعدَ انتهائها, من خلالِ غربلةِ الذاكرةِ الشعبيةِ الجمعيةِ بهدوءٍ وتبصّرٍ.. هذا ماتراهُ الشاعرة سعاد محمد، وبالنسبةِ للأدبِ النّسوي عموماً والقصيدةِ النّسويةِ خاصةً, تُضيف: نادراً ما تناولتْ الحربَ بشكلٍ مباشرٍ إلّا في حالاتٍ قليلةٍ جداً حتّى المعدوداتُ اللّواتي لامسْنَ قضيةَ الحربِ وتبعاتِها على فكرِ ومعيشةِ الأمّةِ؛ فعلنَها برفقٍ وحذرٍ! أمّا توهّجُ (فورةُ) القصيدةِ النسويّةِ فَمَردّهُ – برأيها- للفوضى الإعلاميةِ، ففي ظلِّ (الفيس بوك) حيثُ لكلَّ جريدتَها ووسيلتَها الإعلاميّةَ المجانيّةَ والحرةَ، ولأنَّ لقبَ “شاعرة” مغرٍ, جعلَ هذا الكثيراتِ يستسهلنَ أمرَ الخوضِ في الشّعرِ كموضةٍ دارجةٍ لاسيّما أنّها تتيحُ سيلاً من المديحِ والشُهرةِ الهشّةِ، وبأغلبيةِ هذهِ (القصائدِ) إنْ نجتْ من الأخطاءِ الإملائيةِ والنحويةِ؛ جاءتْ تعبيراً حاراً عن الحرمانِ والكبتِ العاطفي والاجتماعي! وحالاتٌ قليلةٌ تناولتْ مواضيعَ إنسانيةً ساميةً، وتوسّعَتْ هذهِ العدوى حتّى شملَتْ أعداداً لا تُصدّقُ بأغلبيتِهنَ يجهلْنَ بناءَ وروحَ القصيدةِ وبتعبيرٍ أدقٍّ أنجزْنَ محضَ ثرثراتٍ عاطفيةٍ!
محمد: لأنَّ لقبَ “شاعرة” مغرٍ جعلَ هذا الكثيراتِ يستسهلنَ أمرَ الخوضِ في الشّعرِ كموضةٍ دارجةٍ
أمّا القصيدةُ الحقّةُ فلها سيداتُها المرموقاتُ, تؤكد سعاد محمد، وستحفظُ الأيامُ سموَ تجربتِهنُ, وغالباً ما يكونُ الرّهانُ على الزّمن ناجزاً حينَ تلمعُ الأسماءُ الّتي تحلَّتْ بمسؤولياتِها الأدبيةِ والإنسانيةِ وأبدعَتْ في إحياءِ همومِ القصيدةِ السّاميةِ وببراعةٍ!
هذه الأحكامُ تشملُ الأدبَ عموماً وفي كلِّ زمنٍ سواءَ في الحربِ أمْ السّلمِ, فالحرب لا تقدم الهدايا حتى للأدب, فهؤلاء الشاعرات كنَّ قبل الحرب وبقيْنَ ومنْ تتقنُ فنَّ القصيدةِ لنْ تُعدَمَ حيلةً لتقديمِ نفسِها بالشّكلِ اللّائقِ, ولنْ ننكرَ دورَ وسائلِ التّواصلِ الاجتماعي في اختزالِ الكثيرِ من تعبِها للوصولِ رغمَ ضياعِها أحياناً في هذا الكمِّ الهائلِ منَ الهيجانِ الكتابي!
ثمَّةَ نقطتان هامتان تُشير إليهما صاحبة “الغريب”، أولُهما: أنَّ بعضَ الشّاعراتِ وهنَّ قلةٌ كنُّ على رأسِ الحدثِ كمراسلٍ حربيٍّ, يتابعْنَ أخبارَ الجبهةِ لحظةً بلحظةٍ, وأظنَّ أنَّه لنْ تغفلَ أسماءَهن كلتا الذاكرتين الأدبيةِ والشعبيةِ.. والنقطةُ الثّانيةُ والّتي لا بدَّ منَ المرورِ بها أنَّ الشّعراءَ الرّجالَ ينسحبُ عليهم هذا الكلامُ برمّتِهِ وإنْ اختلفَتْ نسبُ الغرقِ لأسباب متعددةٍ.. وأجزمُ أنَّ الضغوطَ النّفسيةَ للحربِ ساهمَتْ في شيوعِ هذهِ الظّواهرِ كهجرةٍ إلى غربةِ الذّاتِ.!
بوبو: لأنّ الحرب تكثيفٌ للمواجع كان لا بدّ من الشعر بطانةً من مخمل لكلّ هذا العويل الناتئ والزعيق المشرشر الحواف
تكثيفٌ للمواجع
رماح بوبو صوت شعري آخر بلغ سموّه خلال سنوات الحرب، وحجز ملامحه التي فارق بها إلى حدًّ كبير المشهد الشعري السوري؛ تقول: ولأنّ الحرب تكثيفٌ للمواجع؛ كان لا بدّ من الشعر بطانةً من مخمل لكلّ هذا العويل الناتئ والزعيق المشرشر الحواف، ولأنّ الرجل “هشّلته” الميادين قاتلاً أو مقتولاً.. أو أيبسه القحط فغدا أصفر البوح وهو يركض صامتاً بين المنافي هارباً باحثاً عن منجى أو لقمةٍ أو حتى متّكأ عقيدة يسند عليها ما تبقى من وجوده.. هنا كان لا بدّ للمرأة من صحوةٍ!
ورغم أنّ المرأة والبوح توءمان منذ الخليقة، وليست الحرب من آختهما؛ غير أنّ بوبو تؤكد: لكنها أي الحرب التي دفعت شعر المرأة ليقوم عن كنبة الحلم والعشق المريحة فيلجُ دهاليزاً جديدة يتناول مضامينَ لم يسبق له أن تناولها.. نعم لم يكن قبل الحرب لشِعر المرأة كأنثى صوته الخاص إذ كانت محاولاتها خجولةٌ إلى حدٍّ ما، وضائعة في زخم التّشابه مع صوت الرّجل، إلى أن شكّلت هذه الحرب فجيعةً مضاعفة لها فانتشلتها من عالمها البسيط الهادئ والذي ارتضت فيه الاستناد إلى رجل تبرّع بالقول والفعل تاركاً لها الظل بكامل خديعته، لتستيقظ فجأة على هول الكوابيس وأصوات السّكاكين ما دفعها لتشمَّر عن صوتها الخاص وترفعه في وجه هذا الخراب، ورغم الازدحام اللافت بالأصوات النسوية مؤخراً إلاّ أننا نستطيع أن نكتشف مستوى جديداً من النضج بدأ يظهر في قصيدة المرأة بعد أن تخلّت عن رخيم الغنج ليغدو نصّها أكثر ملامسة لمحظوراتٍ لم تقربها من قبل، فيظهر صوتها الجديد رافضاً وساخراً من الكثير من المفاهيم المغلوطة التي طأطأت رأسها لها سابقاً، وذلك ابتداءً من عالمها الداخلي والذي طالما قتّرت فيه برسم حقيقة أوجاعها ورغباتها وحدّة عشقها مروراً بالرفض والسّخرية من قيمٍ طالما تُليت عليها بصورة مقدّسات لا يمكنها التّشكيك أو الحياد عنها قيد أنملة وصولاً إلى صرخةٍ أعلى بوجه ديكتاتوريات الحرب والظلم والعسف، لكن ورغم ما سبق – تردف بوبو- لابد من الاعتراف بأنها لم تتمكن –المرأة الشاعرة- من أدواتها جيداً بعد، فيحدث أن نصادف البوح يسبق الصنعة الفنية المتّقنة للنّص أو بعض التشتت في المبنى بسبب فائض الشعور.. ومع ذلك تستطيع بوبو أن تؤكد على وجود أصوات نسوية عدّة استطاعت في السنوات القليلة الماضية أن تدخل الشّعر من بابه الواسع وأن تشكّل صوتاً لافتاً للانتباه ومؤثراً برغم الخراب الذي يسعى لسحل كل ما يمت للجمال بصلة.
بركات: شِعر له ملامحَ خاصة لردات فعل المرأة تجاه معطيات الحياة ومآلاتها المتفرقة حيث تفرض طبيعتها نفسها على العلاقة القائمة بين المرأة والفكرة
ملامح خاصة
إلى حدًّ بعيد توافق الشاعرة عواطف بركات زميلتها رماح بوبو في بعض ما ذهبت إليه، حيث تقول: برغم وحدة الهمّ الإنساني بين الرجل والمرأة إلا أنه يمكن تحديد ملامحَ خاصة لردات فعل المرأة تجاه معطيات الحياة ومآلاتها المتفرقة, حيث تفرض طبيعة المرأة نفسها على العلاقة القائمة بين المرأة والفكرة، لذلك فإنّ المرأة سرعان ما تتأثر بتلك الظروف السائدة نتيجة المناخ العام كالحرب مثلاً، وسرعان ما تتحول إلى فاقدةٍ وشاكية ومذعورة لكونها الأم والبنت والأخت, وما فرضته الحرب من جوّ نفسي ضاغط سوى بيئة مشحونة بالحزن والترقب على الدوام وكردة فعل؛ وبتقديرها؛ جاء شِعر المرأة في هذه المرحلة الحساسة من بؤرة هذه الصراعات النفسية كافة التي خلفتها الحرب.. شعرٌ متوتر يتغنى بالأمل الشحيح والفقد الجاثم والرعب المتفرع من فجائعية الفقد والثكل, الأمر الذي لا يفسره سوى عجز المرأة عن التفاعل بطريقة أخرى كالمشاركة في الحرب والمعارك الدائرة هناك.. وذهابها إلى قوقعةِ الانتظار الطويل خلف ستائر الأمنيات والدعوات.. الكتابة في زمن الحرب تراها بركات: “إنها تأتي كسمةٍ مرافقة لقسوةِ الموت, وزهو الانتصارات، تأتي مُشّرِحةً لمعاناة البشر العميقة وهم يراقبون أوطانهم تخوض معارك البقاء أو اللا بقاء, وشعر المرأة خاصة أكثر تعبيراً عن ذلك”.. وبالنسبة للفقرة الثانية من السؤال: تردف بركات: “لا يمكن التقليل بأي حالٍ من الأحوال من شأن ذلك الحراك النسوي, بل يعتبر صرخة ضد الموت والحرب, ضد الألم, صرخةً داعيةً للتشبث بالحق والحياة، وبرغم هشاشةِ بعض ما قد يتم إنتاجه من أدب نسوي خلال فترة الحرب, كونه أدباً مرحلياً جاء نتيجة انفعال أحياناً، ولم يأتِ بصورةٍ مخططة, كالشروع في كتابة ما في حال السلم، إلا أنه برز على الطرف الآخر أدبٌ عميق برسالته وبمجازاته وبصوره الشعرية المُفجعة مواكباً ومزامناً لما يحدث على أرض الواقع الإنساني الرازح تحت وطأة الحروب التي لا ترحم”.
مخلوف: ظهر جيل من الشواعر بدأ يضخ دماء جديدة للمشهد الإبداعي النسوي حيث استحضرن كل همومهنّ إلى بؤرة منجزهنّ الإبداعي
“خلق” وانعكاس
للشاعرة هيلدا مخلوف، التي ترسل قصائدها دون جلبة، لها رأيها أيضاً في ظاهرة الشعر النسوي كمّاً ونوعاً، فتقول: الشِعر هو انعكاس للواقع بقدر ما هو “خلق” له… هو وثيقة جمال تقابل قبح الحرب.. وكان للمرأة الحصة الكبرى منه، فقد ظهر جيل من الشواعر بدأ يضخ دماءً جديدة للمشهد الإبداعي النسوي، لقد عانت المرأة بشكلٍ خاص من القهر، الظلم، القمع والحزن في زمن الحرب.. الأمر الذي دفعها إلى رفض الواقع واللجوء إلى عالم الخيال.. إلى الحلم، إلى التحليق في عالم الشعر الذي يُمثّل لها عالماً مثالياً خاصاً غير محدود بزمان أو مكان، و لا يدركه الفناء.. وبرأيها بحثت الشاعرة عن السعادة للتعويض لانكسارات متتالية وآلام وأشواق.. فالتصقت لحظات ضعفها حيال الفقدان بلحظات قوة تمثلت في إبداعها الشعري.. حيث استحضرت كلَّ همومها إلى بؤرة منجزها الإبداعي.. فالشاعرة هي أمّ لشهيد أو جريح، هي أخت، زوجة، صديقة، قريبة أو حبيبة.. و لم تبق أنثى تقريباً إلا وفقدت عزيزاً.. وبرأي مخلوف؛ فقد ظهرت المرأة جريئة قوية في بوحها ولغتها.. في تمردها ورفضها التدثّر بأي غطاءٍ خارج غطاء الوطن.. فكتبت عن الحب، الاغتراب والألم.. وأكثر ما أجادت فيه هو الفقدان والرثاء.. بعض الكتابات؛ تراها مخلوف أنها تميزت بالجرأة على المستوى الدلالي والفني.. حيث كسرت القوالب الثابتة للموروث الشعري، وظهرت النثرية المُنحازة بقوة إلى التجريب والحداثة، فكانت هناك نصوص واضحة، وتخلو تقريباً من أي صورة بيانية.. وفي المقابل انفجرت نصوص كقنبلة وأخذت ضجة كبيرة متجاوزة الصور البيانية، إلى التجسيد الصوري والبحث عن لغة رامزة جديدة متوازنة.. بعض الشواعر من أكدت هويتها، وشكلت علامة فارقة، حيث صاغت سبائك شعرية من قيم الحرب، وعكست كل قيمة شخصية صاحبتها ومرجعيتها الفكرية.. وبعض القصائد تدلُ على حضور موهبة، لكنها تحتاج إلى الكثير من الصقل؛ كي تتخطى بعض الخلل التركيبي، والإشكالات العالقة حيث ضيعت انتماء شكلها الشعري، فاختلط النثر بالمقفّى.. غير أنّ عدداً لا بأس به من الشواعر أصدرن ديواناً واحداً لكنهنّ سرعان ما تعثرن في محاولاتهن واختفين لضعف الموهبة؛ أو بالأصح لعدم وجودها أصلاً.. فكتبن شيئاً ليس شعراً.. شيئاً يخلو من الوزن والصور البيانية؛ فضاع فيها معنى الشعر.. وفي نهاية المطاف يبقى الاحترام والخلود للنص المميز…
وفي الختام
من سرد لآراء أربع شاعرات، لكلّ منهن صوته المُختلف إلى حدّ بعيد، بين الصوت الذي اتجه صوب العمق، أو الصوت الذي وجد في التهكم فضاء للقول الشعري، وبين فكرنة الومضة الشعرية؛ تكاد تجمع الشاعرات على اقتحام المرأة لفضاء القصيدة بجرأة أكبر ولم تعد تنتظر حفاوة “صوت ذكري” تحكّم بالمنبر الإعلامي واحتكره لزمن طويل، صوت نسوي فارق فيه شواغل الشعراء الرجال، صوت قريب جداً مما يحدث حتى أمسى مُعادله، صوت يذهب في البعيد يُحلل، ثم يقترب من اليومي ليُعايش ويعكس علّه يقرأ في كفّ الأمل مساحة بياض وفرج يملأان هذا الخراب جمالاً حتى وإن أصبح في المشهد زحمة من الأصوات.
وربما للحديث أكثر من بقية..