كانت المساحة التي تتحدّث فيها المذيعة ضيقةً جداً بحيث لم يبدُ منها سوى أصابع تحمل الميكرفون، لكنّ “ضيفة” اللقاء كانت بكامل وجهها، جالسةً على الأرض، بجوارها وسائد مكدَّسة بحكمِ ارتجال المكان، تحكي بصعوبة، بما يسمح كَسْرُ فكّها الأعلى، عن خروجها من تحت الركام دون طفلها الرضيع وتتمنى أن ينتبه إليها أحدٌ ويصحبَها إلى مشفى للعلاج، ولأن حدودَ صاحبة الميكرفون هي الاستماع تمنت لها العافية على عجل واستدارت، لنرى أربع فتيات دون العشرين مصطفّات قرب بعضهن على بطانية ممدودة، قالت أكثرُهن صحواً إنهن التقين هنا منذ ساعات! وأشبعت فضول المذيعة قبل أن تسألها: بأنهن فقدن عائلاتهن وتجمعن ليعرفن ماذا سيحلُّ بهن، وخلال هذه الساعات تحوّلن إلى عائلة جديدة مؤقتة، وأشارت إلى إحداهن وقد دهمها هرمٌ مفاجئ تجلّى بتنكيس الرأس والصمت المطبق الذي أتاها من فقدان النطق ورفض الماء والطعام!
استأثرت اليافعة بالكلام كأن ماءً حبيساً في فمها تريد إفراغه دفعة واحدة أو كأنها حفظته قبل أن يغمرها الطوفان لعلمها أنه قادمٌ إليها كما أتى غيرَها من الآلاف وسبَق أن روته لنفسها قبل أن تواجهه: كنا نرفع أطباق الطعام وجدتي لم تنهض بعد للوضوء وخالي واقف في الباب يسأل أمي إن كان بالإمكان بقاء أولاده عندنا ريثما تعود أمهم من مشفى الولادة وأبي يحضّر الدراجة التي سيذهب عليها لشراء دواء لأخي الصغير، لكن كل هذا انقلب في ثوانٍ حين حلّ صاروخ: استشهدت أمي.. استشهد خالي.. استشهد أبي.. ناديت على جدتي لكنني لم أسمع ردّها حتى الآن. زوجة خالي في المشفى استشهدت ولم تسمع بخبر زوجها وهو لم يسمع بخبرها.. أخي الذي كان يرتب دفاتر الوظائف استشهد. وهذه “رولا” استشهد ثمانون من عائلتها في الشمال، وحين وصلت مع عائلتها إلى الجنوب، تستخدم هنا جملة معترضة، وعرفتُها منذ ساعات أخبرتني أن خالتها استُشهدت مع ابنها “وائل” وحفيدتها “زهرة” ….
هنا كفّ ذهني عن تثبيت المعلومات وحفظ الأسماء وأماكن المذابح التي تفنَّن بها العدو وراح ينشر بصلافة عن استخدامه للذكاء الصناعي لمحو البشر من الوجود كأنهم حروف كُتبت بقلم رصاص، وتكرر في وعيي فعلٌ واحد بصيغة الماضي: استُشهد.. استُشهدت. استُشهدا. استشهدوا!! وأيُّ ماضٍ هذا؟ إنه ماضٍ حاضرٌ ومستمرّ ومن عجبٍ أن صيغته باللغة العربية تعني الانقضاء التام وليس لدينا كما اللغات الأخرى: ماضٍ مستمرّ، فهل ستُدخِل فلسطين هذه الصيغة إليها، كما أدخلت عشرات المفاهيم والمصطلحات إلى وعينا؟
نهلة سوسو
123 المشاركات