الدور الأبوي للدولة بين الواجب والمسؤولية… اقتصاديون يطالبون بتحقيق العدالة المجتمعية وتوسيع المشاركة مع قطاع الأعمال
دمشق – بارعة جمعة:
حالةٌ من الضبابية تسود المشهد، تراجعٌ بالأداء وعدم اليقين بصوابيّة النتائج المُنتَظرة، جعل من ضرورات اعتماد سياسات جديدة للمواجهة ضرورةً مُلحّة لدى خبراء واقتصاديين عايشوا المشهد منذ سنواتٍ طويلة، آخذين بتجارب عدة دليلاً وبرهاناً على سوء الإدارة الناتج عن عدم الرغبة بالتطوير، لأسباب ذاتية وموضوعية، استوجبت التفكير بعيداً عن الدور الأبوي للدولة، المتمثل بسياسة توزيع الموارد، التي باتت اليوم غير مدروسة بدقة، وسط توفرها وبكثرة.. فما هي مبررات هذا العجز الكبير بالسياسات الاقتصادية عن مواكبة التغييرات الطارئة؟ وما هو دور قطاع الأعمال في حال غياب دور القطاع العام عن تأدية واجباته بأمانة؟!
دور رائد
أدوار الدولة معروفة منها التقليدي وغير التقليدي، أما مصطلح المسؤولية الاجتماعية فهو أمريكي المنشأ، وموجه للقطاع الخاص بصورة خاصة، حيث من الأهمية بمكان ما الحديث عنه، لدوره الرائد، وفق توصيف نائب عميد كلية الاقتصاد في جامعة دمشق للشؤون العلمية الدكتور إبراهيم العدي لمفهوم المسؤوليات، كما يجب التفريق بين الدولة والحكومة، الحامل الأول لتراجع الأداء في الخدمات الاجتماعية، التي لم تستطع منذ عام 1949 وبوجود الحكومات المُتعاقبة أن تُعدّل أي نظام ضريبي، متسائلاً عن سبب الجفاء بينها وبين الجامعة!! ، بالرغم من قيام العديد من ورش العمل الاقتصادية التي تعد بمثابة أفكار وحلول اقتصادية مجانية لها، عدا عن كون كلية الاقتصاد هي مشفى الاقتصاد وفق رؤية د. العدي.
أدوار الدولة باتت معروفة بما يتعلق بالمسؤولية الاجتماعية، لكن يجب التفريق بينها وبين الحكومة البعيدة عن سماع الحلول والاقتراحات من الخبراء أنفسهم
المرسوم رقم 30 لعام 2023 أول من تحدث عن المسؤولية الاجتماعية، عبر تخصيص نسبة 4% من نشاطات التجار والفعاليات الاقتصادية كضرائب لصالح هذا البند، الذي يعَدّ بمنزلة الإعفاء الضريبي لهم، إلّا أنه وبالمقابل نجد أن تخصيص مبلغ 50 ملياراً من أصل 34500 مليار للمعونة الاجتماعية ضمن ميزانية عام 2024 هو أمر مُخجل، مُطالباً النظر بحال المتقاعد الذي بات يدفع 100 ليرة خلال حياته الوظيفية بينما يأخذ مقابلها أقل من ليرة للأسف.
تراجع ملحوظ
بعض التيارات ترى أن على الدولة التخلي عن نشاطاتها بتقديم الخدمات، مُبررين العجز بزيادة الإنفاق الاجتماعي، إلّا أن الأمر ليس كما يُروّج له، فالمشكلة بالإيرادات لا النفقات برأي الدكتور رسلان خضور، الذي طالب بتحديد مفهوم الدولة التي تشمل مكونات ومقومات ورموزاً، إلى جانب السلطات الثلاث، المسؤول الأول عن القيام بالمسؤولية الاجتماعية.
عملياً، الإنفاق الاجتماعي في تراجع لا تزايد ومنذ سنوات طويلة، حيث بلغت النسبة في موازنة 2022 من إجمالي الانفاق 41.2%، وفي موازنة 2023 بحدود 30%، وفي اعتمادات العام القادم 2024 بحدود 17.5%، هو تراجع ملحوظ ولاسيما في سنوات الحرب والعقوبات وخروج حقول الغاز والنفط عن السيطرة، إلّا أنه ليس السبب الرئيس لتراجع الإيرادات وتزايد عجز الموازنة برأي د. خضور، مرجعاً الأمر للتهرب الضريبي وتراجع العبء الضريبي، يُضاف لذلك أشكال الفساد الأخرى، والموارد المهدورة والضائعة لأملاك الدولة بعقود فساد، وليس بسبب تزايد الإنفاق الاجتماعي للمؤسسات الرسمية.
د. العدي: المرسوم رقم 30 لعام 2023 أول من تحدث عن المسؤولية الاجتماعية وكان بمنزلة الإعفاء الضريبي للتاجر
دور تاريخي
عبر التاريخ.. كان لمؤسسات الدولة الرسمية مهامها وواجباتها الاجتماعية أياً كان شكلها، أما الدولة بمفهومها المُعاصر، لها مهام وواجبات أساسية لا يمكنها الوجود والبقاء والاستمرار من دونها، من بينها مهام التشريع والقضاء والدفاع والمهام الاقتصادية والاجتماعية وفق رواية الدكتور خضور لمراحل تطور المسؤولية الاجتماعية، كما أن الخلاف بين الدول والأنظمة السياسية والاقتصادية المختلفة يتمحور حول حجم هذه الواجبات وكيفية وطريق وأسلوب قيام الدولة بمهامها وواجباتها الاجتماعية.
د. خضور: عملياً هناك تراجع بالإنفاق الاجتماعي منذ سنوات طويلة إلّا أنه ليس المبرر للعجز وفشل السياسات
بالمقابل.. يعتقد البعض أن هذه المسؤولية مرتبطة بالاشتراكية، إلّا أنها بعيدة عنها وعن أي دولة أبوية أو رأسمالية، لنجد بأن الأخيرة تقوم بمسؤولياتها رغم امتلاك الدولة قطاعَ أعمال عاماً محدوداً، ومنشآت لإنتاج سلع بنطاق محدود، ويضيف الدكتور خضور مشجعاً هذا الاتجاه قائلاً: ” نعم يبدو أن الرأسماليين أكثر حنكةً وذكاءً من الاشتراكيين، وأكثر قدرة على التكيّف والتأقلم، وأكثر إدراكاً وفائدة من أفكار (ماركس) من الاشتراكيين”، لذا وبالعودة إلى الركن الأساس في عملية إعادة التنظيم، سنجد بأنه قائم على اعتماد المسؤولية الاجتماعية كأحد أهم مهام الدولة مثل سلطات الرأسمالية، واعتماد المسؤولية الاجتماعية لقطاع الأعمال الخاص، آخذاً بنظرة الرأسماليين المعاصرين في القرن 21 وأصحاب اقتصاد السوق الحر للمسؤولية الاجتماعية، التي تتوقف على إدراك الجميع أن مبدأها لا يقل أهمية عن مبدأ السوق الحر، كنقطة انطلاق لتنظيمها واعتمادها، متوجهاً لقطاع الأعمال برسالة خاصة للاقتداء بالرأسماليين عبر دفع الضرائب المستحقة لضمان الاستمرارية بأعمالهم ومشاريعهم.
ليست لأسباب ودوافع أخلاقية وإنسانية فقط، بل هي حالة من الحفاظ على الدولة وحمايتها، عبر مشاريع إستراتيجية تشكل جزءاً من الأمن القومي، ولتحقيق التنمية المجتمعية التي تضمن حقوق الإنسان الأساسية، بعيداً عن اختصار دورها بدعم بعض السلع (خبز، سكر، أرز، خدمات صحية،..)، التي عدها الدكتور رسلان خضور بعيدة عن جوهر المسؤولية الاجتماعية.
تحقيق العدالة
من خلال سياسة وقنوات التوزيع الأولي، وعبر السياسات المالية والنقدية التي تضمن إعادة توزيع الدخول والفرص والثروات لصالح العدالة والإنصاف، هي أول وأهم مجالات ممارسة الدولة مهامها الاجتماعية، التي ستجنبها لاحقاً برأي الدكتور خضور اللجوء لتقديم الدعم المباشر لبعض السلع والخدمات للأفراد كافة، بل حصره بفئات محددة وضئيلة جداً، كل ذلك لضمان الاستقرار وعدم فقدان السلم المجتمعي أو تمزيق وحدة المجتمع.
هي غايات اقتصادية بحتة، وعندما لا تقوم الدولة بمهمتها الأولى ستضطر لتقديم الدعم لعددٍ كبير من السلع والخدمات، وأغلبية المواطنين، وغالباً ما يشوب هذه العملية- وفق تأكيدات د. رسلان خضور- عمليات فساد كبيرة كما تؤدي لقيام سوق سوداء، بالتالي ستكون آثارها السلبية على المستوى الكلي الاقتصادي والاجتماعي أكبر من آثارها الإيجابية.
سوء إدارة
“لا يوجد دولة متقدمة ودولة متخلفة، إنما توجد إدارات متقدمة وإدارات متخلفة”، من هنا انطلق الدكتور في كلية الاقتصاد أيمن ديوب في إثبات الخلل الحقيقي الذي بات يشوب منظومة العمل، فالهدف الحقيقي للدولة هو المواطن، عبر تقديم الخدمة العامة له من خلال المسؤولية الاجتماعية (حكومةً وقطاعاً خاصاً)، من هنا نستنتج بأن تحقيق مفاهيم الرضا والعدالة والمواطنة والانتماء هي الغاية، والفشل في الخدمة يسوق للفشل بتقديم هذه المفاهيم الأربعة، ما أدى لغياب مفهوم المواطنة.
أبعاد المسؤولية أربعة: أخلاقي، اقتصادي، قانوني، خيري، أما النماذج فهي ثلاثة، الدولة المستقلة الأقرب لمفهوم المسؤولية المجتمعية تجاه مواطنيها، والتابعة لنظام الرأسمالي العالمي، هنا تتخلى الدولة عن مسؤوليتها، ونموذج الاستقلال الوطني الذي يتسم بالوفاء للمسؤولية تجاه المواطنين.
د. ديوب: غياب مفهوم المواطنة كان نتيجة الفشل في تقديم الخدمات العامة عبر مفهوم المسؤولية الاجتماعية
تفاوتت الدول بوضعها للسياسات العامة نحو المسؤولية الاجتماعية برأي د. ديوب، البعض منها اتبع سياسة التدخلات الناعمة غير الملزمة لتحفيز المؤسسات نحو تأدية واجبها، بينما فرضت دول أخرى سياسات ملزمة وقيوداً توجيهية لتنفيذ المسؤوليات نحو المجتمعات والبيئة، وذلك باستخدام مداخل عدة كالمدخل المعلوماتي، والاقتصادي، والقانوني.
برنامج إصلاح اقتصادي
هي خطوات جادة في مجال إصلاح المسؤولية الاجتماعية، اتخذتها الدولة وتبنت من خلالها عملية التحول من اقتصاد مركزي مخطط إلى اقتصاد السوق الاجتماعي، ضمن الخطة الخمسية العاشرة، وفق رواية د. ديوب، فالمناخ السياسي والسياسات الاقتصادية المتينة تجعل من اقتصادنا قابلاً للتأقلم ولتحصين نفسه من المنافسة التي سيواجهها، فالمشكلة ليست في نوعية السياسات بل في امتلاك القدرة والكفاءة والرغبة لتنفيذها، لذا فما تفرضه متطلبات تعزيز المسؤولية الاجتماعية في سورية برأي الدكتور أيمن ديوب هو إعادة هندسة دور الدولة من خلال إستراتيجية وطنية قائمة على التشاركية من القطاع العام والخاص وهيئات المجتمع والفعاليات الاقتصادية، وتجسيد اللامركزية في صناعة القرار، مع اعتماد النظر في كافة اللوائح والقوانين والتشريعات وتنمية وتطوير الجانب الأخلاقي في المجتمع، والقيام بإصلاحات تتعلق بحياة المواطن، يضاف لذلك مبادرة الدولة لوضع خطط وتنفيذ مشروعات تشجع القطاع الخاص على الانخراط في أنشطة ذات علاقة بالمسؤولية الاجتماعية.
كل ذلك لن يتم قبل مكافحة الإرهاب، وتحقيق الاستقرار، والحفاظ على وحدة وسيادة وسلامة واستقلال الأراضي، وإلّا فنحن ندور حول حلقة مفرغة حسب توصيف الدكتور أيمن ديوب، ولن تكون هناك إمكانية أولويات لتوجهات التنمية ومراحلها، حيث إن غياب الاستقرار سيزعزع أي خطة ممكنة، لكن يبقى الوفاء بالمسؤولية الاجتماعية واجباً وطنياً والتزاماً أخلاقياً قبل كل شيء.