من هاينز إلى هنري: نظام خدعة مُجرم!
الصّبي الألماني “هاينز” يصبح بعد هروبه إلى أمريكا “هنري”
تخلّى عن اسمه الألماني ليتنكر باسم أمريكي، هكذا تحول هاينز إلى هنري كيسنجر، ومع أنه لم يكن يهودياً متديناً متمسكاً بشعائره الدينية، إلّا أنّه كان صهيونياً بدعمه القوي لإسرائيل، لم يكن الدين مهماً له إلّا بقدرما يخدمه سياسياً في دعم إسرائيل، ومع تفوقه في جامعة هارفرد وبعد نشر كتابه الأول (الأسلحة النووية والسياسة الخارجية) الذي يحمل فكرة أنّ (القوة الساحقة مهمة لنجاح السياسة الخارجية)، ومع شهرته التي كانت نتيجة لهذا الكتاب، رأى المرشح لرئاسة أميركا ريتشارد نيكسون الذي يكره المثقفين، أنّ هذا المثقف يمكن أن يفيده في رئاسته، فجعله مستشاره للأمن القومي، ومن ثم وزير خارجيته.
هذا اليهودي الألماني الذي كان هاينز بات في البيت الأبيض هنري القوي النافذ في كل أركان الإدارة الأمريكية.
الرئيس جمال عبد الناصر أراد التّعرف عن قرب على الرئيس الأمريكي الجديد نيكسون، فأرسل وزير خارجيته محمود فوزي الذي أبدى بصراحة لنيكسون أنّ مصر والعرب يتوجسون من وجود يهودي صهيوني في البيت الأبيض، فطمأنه نيكسون بأنّ قضية الشرق الأوسط لا دخل لكيسنجر بها، وأنها ستكون من صلاحيات وزير الخارجية روجرز، ولكن شيئاً فشيئاً تمدّد كيسنجر، وتطاول نحو قضية الشرق الأوسط، وفلسطين والكيان الإسرائيلي المحتل.
وبعد حرب تشرين وعندما همّ كيسنجر بالتوجه إلى المنطقة وهو لا يعرفها جيداً، تقدّم منه أحد مساعديه، الشاب يومها ريتشارد هاس(وهو الآن مدير مجلس العلاقات الخارجية)، ووشوشه معرفاً له عن جوهر المنطقة، زاعماً أنها تعمل وفق نظريتين: الأولى هي نظرية (الشيخ والخيمة)، الخيمة هي كل دولة عربية. والشيخ هو زعيمها أو رئيسها وصاحب الكلمة العليا و القرار فيها، ونصحه هاس بالتركيز على الشيخ للحصول على ما يريد.
أما النظرية الثانية فهي نظرية (السوق) التي تقول أن كل دولة هي محل في السوق (كسوق الحراج او كسوق البزورية)، وأن زعيمها (شيخها) يبيع ويشتري وفق مرابحه وحسب السوق، ونصحه هاس أيضاً أن يتبع في السوق طريقة المفاصلة والمساومة، أي أنه إذا أراد شيئاً أو أمراً من أي شيخ عليه أن يساومه ويفاصله بنفس طويل مهما بدرعن هذا الشيخ من عصبية أو رفض أو غضب، لأنه من المحتمل في النهاية أن يحصل على مراده بنصف الثمن الذي كان معروضاً أولاً.
وتبنّى كيسنجر هاتين النظريتين رغم ما فيهما من عنصرية بحق شعوب أنشأت إمبراطوريات كان لها تأثير كبير في بناء الحضارة الإنسانية عبر التاريخ، وبالفعل جاء كيسنجر إلى المنطقة بمهمة لدعم “إسرائيل”، متسلحاً بنظرية الشيخ والخيمة والسوق. ومدعوماً بقوة أمريكا الساحقة العسكرية والسياسية والاقتصادية، ومستنداً إلى سياسته الخارجية المبنية على هذه القوة و تهديدها، ورغم أنه وجد بعض الزعماء العرب يبيعون له ويتنازلون أمامه بالمفاصلة والمساومة، إلّا أنه اصطدم بآخرين لا يساومون ولا يبيعون له ولا يتنازلون أمامه.
أكبر خدعة لعبها كيسنجر، هي عندما سمّى إنجازه في قضية الصراع العربي الإسرائيلي (سلاماً)، وكما كشف مارتن أنديك في كتابه، أنّ كيسنجرعندما تأكد أن السلام بين العرب وإسرائيل من الصعب أن يتحقق، لجأ إلى (الخدعة) بالسعي إلى إنشاء (نظام يوقف الصراع ويؤجل اشتعاله ثانية) ولتحقيق هذا النظام، أُعطي لكل طرف بعض ما يرضيه، وجعل كل طرف يحس بالرضا بما حصل عليه، وساعده على التباهي بما أنجزه علماً أن كل ما تحقق ليس إلا(نظام لتوقف الصراع وتأخير الاشتعال ثانية).
وهكذا روّج كيسنجر لهذه الخدعة على أنّها السلام.
كيسنجر لم يكن رجل سلام في منطقتنا بعد حرب تشرين، بل كان مخادعاً اصطنع خدعة لم تكن تمر أو تنجح، لولا تهاون مَن ضيّع حرب تشرين و إنجازاتها ودماء أبطالها، وكما كان تغيير الاسم من هاينز إلى هنري بمثابة خدعة، كان ما ارتكبه في منطقتنا خدعة محشوة بجرائم الحرب والاحتلال.
والمفارقة أنّ كيسنجر المسؤول عن جرائم الحرب في فيتنام وكمبوديا، والمرتكب للأعمال القذرة التي قامت بها المخابرات المركزية الأمريكية من انقلابات و اغتيالات، أنّ كيسنجر بعد كل ذلك مات ولم يحاسب على جرائمه في فيتنام كمبوديا وتشيلي و في المنطقة العربية طبعاً.