في خامس دواوينها الشعرية.. لينا حمدان تُرخي بجدائل قصائدها في “ما وراء الضباب”
تشرين- ثناء عليان:
«ما وراء الضباب» ديوان شعري من إصدار دار بعل للشاعرة لينا حمدان.. الديوان حديث الولادة تمَّ إخراجه إلى النور هذا العام 2023 وهو الخامس بعد “ظلال من نور، شواطئ الليل، أمواج، يوم احتراق الذاكرة”، وضم بين دفتيه قصائد تنوعت بين التفعيلة والعمودي من جهة، وبين الأدب الوجداني والوطني والاجتماعي والإنساني من جهة أخرى.
والشعر بالنسبة للشاعرة حمدان هو نبض الحياة الأول وهو الفضاء الذي يرفرف به الشاعر بأجنحة من نور.. وفي قراءة نقدية للشاعر مصطفى صمودي قدمها في فرع طرطوس لاتحاد الكتّاب العرب قال فيها: إنّ (الماوراء) هو فرع فلسفي يدرس الغيبيات واللامرئيات، وحاملها الحقيقي “التذهن”، وقد تحدث عنه أفلاطون في مدينته الفاضلة، وهو عكس دراسة الأنطولوجيات التي تدرس الوجود بما هو موجود كما أشار أرسطو، والضباب حدث فيزيائي لا يمكن رؤية الأشياء فيه على حقيقتها أو التنبؤ بما وراءه، فقد يكون ما وراءه سديماً وعدماً وعماء وقد تشرق شمس كانت غافية في مرقد مغربها.
البوابة الرئيسية
وبما أن العنوان –يضيف صمودي- هو البوابة الرئيسة للدخول إلى النص، سندخل فضاء الدّيوان من عنوانه، والخافي أي اللاشعور وما تختزنه الذاكرة كثيراً ما تظهر عفو الخاطر لحظة لا رقيب عليها، لذا نجد أن للبحر في جوانية شاعرتنا سكناً ومُستقراً لا تستطيع منه مَفَراً، وقد نوّهت عن ذلك حين قدمت انطباعاً عن ديوانها السابق “يوم احتراق الذاكرة”، حيث دهشت من الكم الهائل للبحر وما يدلّ عليه في ديوانها السابق، وها هي تعود مجدداَ لذكر البحر في ديوانها الجديد “ما وراء الضباب”.. لأن البحر ساكن فيها وساكنة فيه حتى حدود التماهي، وإذا تلبسها شيطان الشعر فإنّ مارد البحر تلبسها من قبله وأسكنها معه في قمقمه، وإذا خرجت منه فإن حضورها أي محفل يكون نيابة عنه ولا غرو في ذلك، أليس الإنسانُ ابنَ بيئته؟
موسيقا شعرية
وفيما يخص الموسيقا الشعرية في الديوان أكد صمودي أنه عند قراءة الديوان تتبدى الموسيقا كعازفِ كمان ماهر يُخرج بعبقريته ما في جمال الآلة الخشبية من إبداع عبر عزفه المتقن، إذ يشعر القارئ كأنه يركب يختاً يقلّه من طرطوس إلى أرواد عبر بحر ساكن لا موج فيه، مؤكداً أن الموسيقا الشعرية صاحبت الديوان من ألفه إلى يائه، إذ تقول الشاعرة:
“من ذا يرجَع للعيون ضياءها
ويرد للأحلام وهج نجومها
يا أيها الإنسان في زمن
تبعثرت الشموع بدربه مذ تاه معناها
يا شاعر الميماس كيف لحمص أن تنس
أو أنت تنساها..”
ويرى صاحب “شموع الذكريات” أن جديد الأمس قديم اليوم وجديد اليوم قديم الغد، هذه سنّة الحياة، وشاعرتنا سعيٌ دائب للتجديد ما أمكنها إلى ذلك سبيلاً، لم تقف عند المألوف والمعروف، لأن حرفية الاتباع تستعبد مضمونيّة الإبداع، وأن على الشاعر أن يضيف إلى اللغة ما لم يضفه ألف لغوي ونحوي مجتمعين كما قال بول فاليري، والكلام العادي لم يعد يرضي الشاعر الساعي لاعتلاء سدة الحداثة لإدهاش القارىء، فالفلسفة وُلدت من الدهشة كما رأى أفلاطون، ومن التعجب كما رأى أرسطو، والشعر ليس نقلاً للواقع بكلام عادي فهذا من مهام الصُحفي الذي يكتب ما صَوَّر، أما الأديب فيكتب ما يتصور لا ما صور، فكيف بالشعر وهو المنزلة العليا التي تسبح فيها اللغة بين القول والإيحاء، وهو نقلة نوعية من اللغة النمطية إلى اللغة التجاوزية كما رأى الفارابي فتقول:
“صهيل الضوء قم واسمع نشيده
ورتل يا ضيـــاء الروح عيده
أرى في بحـــر عينيك امتـدادي
فتشرق شمس أحلام القصيدة
قصائد على وتر واحد
ولأن الشعر لغة ضمن لغة –يضيف الصمودي- لم يعد الشاعر المجدد ترضيه عبارة ذات يوم هي ومثيلاتها لأنها من لغة حياتنا اليومية، لكن قد تدهشه عبارة ذات بؤس، ذات حنين، ومثل هذا نجده كثيراً في الديوان مثل (الأرق المعتق بالحنين، مشواري غريق، فوق شباك التعب، ضمير الرياح صحو الطريق، كبرق ذاكرة على جفن السحاب، أرق الشهيق، ضوء شحيح النبض، وانكسر المساء، أشجار الحنين، فوق عكاز الأرق)..
وبيّن صمودي أن جل قصائد الديوان اتخذت سبيلها إلى النور عن طريق الكامل والوافر المجزوءين شكلاً بموضوعات تكاد تكون متقاربة مضموناً، وإن دل ذلك على شيء فإنما يدل على أن الشاعرة عزفت قصائدها على وتر واحد مبنى ومعنى حتى جاء الديوان كأنه قصيدة واحدة.
الجمال الحقيقي
ويختم الشاعر مصطفى صمودي قراءته لديوان “ما وراء الضباب” قائلاً: الجمال الحقيقي كلما تفرست فيه ازددت إعجاباً به، أمّا الجمال العام فإنه يذوب ويضمحل منذ حرارة النظرة الأولى، عندما ترجم إنطوان كلان «ألف ليله وليلة» إلى الفرنسية قرأها فولتير زعيم فلسفة التنوير فأعجب بها أيما إعجاب وتمنى أن يفقد ذاكرته ليستعيد حلاوة قراءتها الأولى لها فهذا المثال حفزني للقول: إن من يقرأ ديوان «ما وراء الضباب» يتمنى أن يقرأه ثانية ليستعيد حلاوة قراءته الأولى.