المواجهة بالتكيّف
أما وأننا اقتنعنا بأفول زمن كل ما هو رخيص الثمن، فلا بدّ لنا من إعادة هندسة سريعة لمجمل مفردات حياتنا- مؤسسات وأفراداً- ولاسيما في تلك المساحة الرحبة الفاصلة بين الإنتاج ومقدماته.. والاستهلاك وامتداداته.
تبدو المهمة صعبة بعض الشيء، لأنها ذات صلة بمرونة التكيّف والاستجابة، وعند هذه الخاصيّة “المرونة” تنطوي عبرة الخلاص الحقيقي من مأزقنا الراهن ولو جزئياً.
علينا ألّا نرتجف أمام التباينات الصارخة ونحن نتعاطى مع أولوياتنا المتزاحمة، وأن ننتقل وبرشاقة فريدة من مناقشة خيارات مواجهة تحدي الأمن السيبراني والفجوة التقنية، إلى بحث توزيع حصص مازوت الزراعة والتدفئة..
ومن الحديث عن مقومات “استثماراتنا الواعدة” في اقتصاد المعرفة والبرمجيات، إلى فرص استثمارات المرأة الريفيّة، حيث تكون “تقنية” صناعة مربى السفرجل وقمر الدين أهم من كل منتجات وفتوحات الذكاء الصنعي؛ الخبيث منها والحميد.
فلا رضوض تُذكر يجب أن نسمح للمفارقات أن تلقي بها في أعماقنا، من جراء التنقل السريع من أقصى اليمين إلى أقاصي اليسار، لأنها كلّها استحقاقات أقلّها غدا ملحاً.. في رحلتنا باتجاه استدراك ما فات، وهو بالفعل كثير، بعد حزمة سنوات كانت ثقيلة الوطأة، ولعلّها مازالت.
لا وقت للاندهاش والاستغراب أمام المتغيرات مهما كانت قاهرة، وبات علينا أن نستثمر الزمن في السباق المحموم معه ذاته، ولا نظن أن ثمة طائلاً من إطالة الجدل بشأن الخطط والخطط البديلة لا للزراعة ولا للصناعة ولا في مجال التقانة الذكية.
المهم أن نبدأ.. لأننا صرنا فعلاً أمام وقائع تؤكد أن الوقت من ذهب.. فقد أسرفنا الكثير الكثير من الجدل بشأن الأسمدة والمحروقات والإنترنت والبذار والبرمجيات والشبكات والمكننة الزراعية والري والصادرات والتجارة الداخلية والمشاريع الصغيرة.. ومازلنا نستغرق في الإسراف، لكنْ بيننا- نحن أنفسنا- حاذقون في مختلف القطاعات- من الفلاح وصولاً إلى المتخصص في البرمجيات والتكنولوجيا المعقّدة – تركونا لجدلنا البيزنطي والتقطوا برشاقة ومرونة خصوصية الاستحقاق الصعب وشرعوا بالعمل فعلاً، وهم يعلمون أن مدخلاتهم والتكلفة مرتفعة، لكنهم متيقنون من أن مخرجاتهم واعدة بعائدات مجزية.. هؤلاء سبقوا الجميع إلى العلاوات الكامنة في حنايا التحولات بما فيها جائحة التضخم، أنتجوا وباعوا.. استثمروا وربحوا، فيما سواهم لم ينتج سوى الكلام وحسب.
العبرة في مبادراتهم أنهم تخلصوا من لوثة الانتظار.. انتظار عودة الدور الأبوي للدولة الذي لن يعود ويجب ألّا يعود بالتكنيك ذاته والميكانيك الذي كان عليه سابقاً، لم يعاندوا ولم يكابروا ولم يمعنوا أكثر بترقّب تدفق فُرص الخلاص العتيدة.
هي مرونة التكيّف التي لامناص منها، والمهارة في قراءة الواقع واستشراف المستقبل، ولعلّها رأس المال الأهم في زحام التشتت وتوهان البوصلة لدى الأكثرية..
حسبنا أن تنتقل هذه المهارات بالعدوى، ولتكن العدوى إيجابية هذه المرة، بما أننا سئمنا من تواتر عدوى الجائحات.. الصحي منها والاقتصادي والاجتماعي أيضاً.