الطوفان فاق الخيال أكثر مما روته الحكايات التاريخية مكتوبةً وشفوية والطوفانات كانت تعبُر بزمن قصير ثم تتسع أزمنتها ببقاء بلاويها وهي تتكسّر كالأصداء في سلسلة جبال هائلة وعصية، فهذا الطوفان ليس خاطفاً ولم يفرغ طاقته في زمن قياسي، بل تمدد تحت الأبصار الشاخصة إليه، وكان مرئياً، ورؤية العين أكثر فداحة من المسموع بالأذن، إذ لم يعد الوعي ينغلق على نهاية الرواية: ونجا بعضهم بروحه ليجد نفسه بلا أهل ولا ممتلكات لكن على أرض يضع عليها قدميه، لأن المشاهد نفسه، ولو عن بعد، قد هزّه الطوفان وجرفه وجدانياً وزعزعه كأنه في طيّات مائه العنيف!
لن تحار العين أبداً في رصدها للمقاوم الشجاع المدهش المتمرّد حتى على التوقعات، المبدع في مجالٍ فيه أكاديمياتٌ وخبراءُ ودروس، لكنه فاق كلَّ علومها وتراكم خبراتها عبر التاريخ، ولن تخطئ هذه العين في انتحائها الضوئي وهي ترى الأطباء في المشافي كأنهم كائنات أسطورية لا تحتاج إلى راحة ونوم، ولا بدّ لمشاعر الغضب أن تعصف أكثر من إعصار وهي ترى الأطفال قد طوَوْا أذرعتَهم وتركوا عليها أسماءهم وناموا باكراً نومتهم الأبدية ولا الأمهات اللواتي يحمدن الله بدمعة ويقلن إنهن باقيات مادام ترابُ الأرض باقياً، فمثل هذا الطوفان لم يُبْقِ أحداً خارج اندفاعه، حتى إذا هدأ الخاطر بين نفَسٍ ونفَس تذكرتُ أن بين هذه الجموع “الفنان”! وهو الشخص النادر الذي يتخطى الأزمنة، ويعيش “زمنه” الخاص، بالطبخ على نار هادئة وباستشراف أمكنةٍ بعيدة غالباً ما تكون وراء الأفق، وبردود أفعالٍ خاصة لا تشبه ردودَ أفعال الجموع! تُرى هل من وقتٍ لرؤية هذا الفنان أو الانتباه إليه بين الأمواج المصطخبة والنيران المتأججة؟ كنتُ أنظر بلا تركيز بين دفق الأخبار إلى جذع شجرة هرمة ماتت منذ سنوات ولم تجد فأساً يقطعها من أصل الساق، فهالني أن برعماً أخضر قد بزغ على ساقها وشق طريقه إلى الضوء مستجيباً لقانون الحياة بعيداً عن الأنظار وبنفس اللحظة تدفقت إلى سمعي أغنيةٌ ينشدها المقاومون الذاهبون إلى منازلة العدو، وكان مخرج شاب يتحدث كيف صنع فيلماً في عيد ميلاد طفلته من وحي أطفال الطوفان، وغزيرةً كانت لوحات الرسامين التي شُغِلت بشغاف القلوب، وعُزِّر فنانون لعبثهم بقدسية هذا الطوفان، وفي اعتقادي أن أدباء كثيرين يكتبون الآن مسوّدات أعمال، ستكون بعد انحساره باقيةً تخلده، تماماً كما بزغ البرعم الأخضر على جسد الشجرة حتى لا تنضب منها الحياة!
نهلة سوسو
125 المشاركات