بنبضها الحيّ

كانت تقف على نافذةٍ بغطاء رأسٍ أبيض، لا بدّ أنه يغطي شعراً أبيض، وفي إطار النافذة تزاحمت فتياتٌ صغيرات مشعّثات الرؤوس، باسمات الوجوه، ضائعات الألوان لأن الغبار ضجّ غاضباً لانتزاعه من الجدران والحجارة والأرض، وقد حسب نفسه كامناً إلى الأبد في أساسات البيوت وحيطانها وسقوفها، وما عاد يعرف لنفسه مستَقرّاً، وبلحظة تركيزٍ كان المشهد يعيد رسمَ تفاصيله: إطار النافذة من خشبٍ مطلوٍّ بلون بنيّ، وهو معلقٌ في الفضاء بعد سقوط الجدار الذي كان موطنه الطبيعي! وتحت الجدار تلةٌ من ترابٍ كامدٍ تهاوى بفعل القصف الجنوني، حتى بدت الإناث الخمس معلقاتٍ بين السماء والأرض فحدسْتُ أنهن سيطلبن نجدةً أو سلماً بعد أن طمى الطوفان، وأنه ليس هناك من مجيب، فعلى كل عتبة يحمل الآباء أشلاء أطفالهم ليدفنوها غير متفرقة، وفي كل باحةٍ تبكي الأم أولاداً لم يمدوا أيديهم إلى خبز الطعام قبل أن يفارقوها، وعلى أسرَّة المشافي يكتشف الأطباء أن من تُغمَضُ عيونهم وتُعَدُّ أكفانهم هم الأهل من أب وأم وولد، وفي عين كاميرا الصحفيّ تبدو الزوجةُ مضرّجة بدمائها ويدها تمسك بأصابع ابنها! فمن لتلك الجدة التي تسكن النافذة مع حفيداتها؟ من بوسعه أن يفهم لعبةَ قوانين الفيزياء وكيف توقفت وجعلت النافذة المعلّقة في الفضاء سكناً كاملاً لم يهْوِ في الفراغ كما هوت البيوت والأحياء والمشافي والكنائس والمساجد؟
من النافذة التي أمسكت نفسها وإطارها سابحةً فوق الطوفان الذي لم تستطع كلُّ نار العدو المستعرة أن تجففَ منه قطرةً واحدة، نادت الجدة بأعلى صوتها: باقون هنا حتى آخر نفَس، لن نغادر إلى أي أرضٍ في العالم! فات زمن التهجير، وحملِ المفاتيح! سنعيش على حجرٍ واحدٍ وحيد إذا كُتبت لنا الحياة، وسنُدفن تحت هذا الحجر إذا أراد الله أن نعود إليه. هنا حياتنا ومماتنا!
تحوّل المشهد كلُّه إلى صورة ثابتة كآلاف الصور التي التُقطت بينما الطوفان يواصل رحلته المباركة على الأرض، وفي أدبيات الإنسان أن بعض الصور تتحول إلى أيقونات، والأيقونة ما تلبث أن تسكن في القداسة الروحية أبدَ الدهر كما أيقونة تلك المرأة التي عانقت جذع شجرة الزيتون المعَمّرة وطلبت انتزاع روحها مع قطع الشجرة وكما ذلك الطفل البهيّ يوسُفيُّ الجمال وكما ذلك الذي تحرّر من قطع ساقيه وطار بجناحين هائلين وهو يقذف العدوَّ بحجر! امتلأت الدفاتر والكتب والجدران والمدوّنات بالأيقونات، لكنّ جدّةَ الصغيرات الأربع مازالت حيةً بنبضها تأبى السكون والسكوت، وهي تروي بصوتٍ واضح النبرات حكاية شعب يصنع معجزةً كل ثانية!

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار