“القراءة الآنيّة”… مُهادنةٌ مع دماغٍ مُتعَب
تشرين- لبنى شاكر:
عدم القدرة على قراءة النوتة الموسيقية، عارضٌ غريبٌ، يُوجز حكاية طويلةً حدثت فعلاً، بين المريضة عازفة البيانو ليليان كالير، وأستاذ طب الأعصاب والطب النفسي في جامعة كولومبيا الكاتب أوليفر ساكس 1933-2015، اختارها لاحقاً، من بين عشرات الحكايات/ الحالات الصحيّة غير الاعتيادية التي قابلها في حياته، لتكون فصلاً بعنوان “القراءة الآنية” في كتابه الشهير “عين العقل”، والذي ترجمته عن دار الهنداوي عام 2021، المترجمة ياسمين العربي. وفيه يبحث ساكس في أغوار العمل المُعقَّد للدماغ، وقُدرته المذهلة على التكيُّف والتغلب على الإعاقة من خلال دراساتٍ لحالات أشخاصٍ، استطاعوا التكيّف مع واقعٍ جديدٍ، فرض نفسه عليهم، بعد اضطراباتٍ عصبيةٍ أو إصاباتٍ شديدة بالزهايمر وغيره من أمراض الدماغ، سلَبَتهم القدرةَ على القراءة أو الرؤية أو حتى التعرُّف إلى وجوه عائلاتهم، واللافت هنا أن عدداً من المصابين هم أدباء وكتّاب وموسيقيون ورسامون، اختلّت حياتهم بلا سابق إنذار، لكنهم تعايشوا بطريقةٍ رائعةٍ، بل كانت الأذية الدماغيّة، مُحفزّاً نحو إبداعٍ غير مسبوقٍ في مسيرتهم.
تقول كالير في رسالتها إلى الدكتور ساكس، والمنشورة ضمن الكتاب “مُشكلتي غير المألوفة تماماً، إنني لا أستطيع القراءة، لا أستطيع قراءة النُّوَت الموسيقية، أو قراءة أي شيءٍ آخر، في عيادة طبيب العيون يُمكنني قراءة الحروف المُنفردة على لوحة فحص النظر وصولًا إلى السطر الأخير، لكني لا أستطيع قراءةَ الكلمات، والمشكلة ذاتُها مع الموسيقى”، وعلى ما تُوضحه في اتصالاتٍ وزياراتٍ بينهما، فقد ظهرت أول إشارة إلى وجود مشكلة أثناء حفل موسيقي في عام ١٩٩١، كانت تؤدِّي معزوفات كونشرتو على البيانو لموتسارت، وحدَث تغيير في برنامج الحفل في اللحظة الأخيرة، من كونشرتو البيانو التاسع عشر إلى الكونشرتو الحادي والعشرين، لكن عندما فتحت النوتة، فوجئَت أنها غير مفهومة تماماً لها، فعلى الرغم من أنها رأت المدرجات والسطور، وكل نوتة على حِدَة، حادَّةً وواضحة، لم يبدُ أن أيّاً منها كانت مُترابطةً مع الأخرى بحيث تُعطي أيّ معنى.
اعتقدَت كالير أن تلك المشكلة تتعلق بعينَيها، وواصَلَت أداء الكونشرتو بلا أخطاء، اعتماداً على ذاكرتها، وتجاهلت هذه الواقعة الغريبة مُعتبرةً إياها واحدة من تلك المصادفات السيئة، لكنّ صعوبات القراءة تكررت، مع مُلاحظتها إغفال الأشياء إلى يمينها، عبر بعض الحوادث البسيطة، إلى أن بدأت الأخطاء المُحرجة بالتفاقم، بموازاة صعوبة التعرّف إلى الأصدقاء القدامى، ليتبين من خلال الفحوصات إصابتها بتلف القشرة البصرية نتيجة ضمورٍ في أجزاءٍ من الدماغ، وهو ما أكّدته مشكلاتٌ ظهرت تباعاً، في عدم تمييز الأشياء والألوان أو ما سمّاه الدكتور ساكس “العمه البصري”، لكنها بالمقابل استندت إلى مخزونها الموسيقي الكبير، فلم تكن تُخطئ أثناء العزف في الأماكن العامة كما استمرت في التدريس على أعلى مستوىً في كليات الموسيقى، على الرغم مما قد يبدو أنه إعاقاتٌ مدمِّرة تماماً، وحافظت على مقدرتها بإعادة عزف أي مقطوعةٍ موسيقيةٍ جديدةٍ، بعد الاستماع إليها لمرةٍ واحدةٍ فقط.
خلال تسع سنوات، كان الدكتور ساكس مُشرفاً على حالة كالير، حتى أنهما أصبحا مع الزمن صديقين، ومما يُشير إليه في استعراض الأساليب التي اتبعتها للاستمرار في حياتها كموسيقية، اعتمادها الكامل على أُذنيها، بعد أن أصبح استخدام الأقلام والنوتات مستحيلاً، يقول “شعرتُ أن ذاكرتها الموسيقية، وصورها الذهنية الموسيقية، أصبحَت أقوى، وأكثر تماسكاً، ولكنها أيضاً أكثر مرونة، لدرجة أنه كان بإمكانها الاحتفاظ بأكثر الألحان الموسيقية تعقيداً في ذهنها، وإعادةُ إعدادها وعزفها ذِهنياً، بطريقةٍ كانت مستحيلةً من قبل، فأصبحتْ قدراتها التي تعمل باستمرار على تقوية وتدعيم الذاكرة والصور الموسيقية أساسيةً بالنسبة إليها، وساعدتها على المضيِّ قُدماً في مسيرتها منذ بداية ظهور صعوباتها البصرية”.
مع تزايد عجز كالير، لم يعد بإمكانها التحرّك من دون مساعدة زوجها، حتى إنها كانت تتوه في بيتها وتصطدم بالأشياء، لكنها كانت قادرةً على الاستمرار في ممارسة التدريس قليلاً من خلال قدوم طلاب من كلية الموسيقا إليها. وفي إحدى زيارات الدكتور، طلب أن تُسمِعه رباعية هايدن التي عزَفتْها له من قبل، يقول “عندما جلستْ إلى البيانو، تخبَّطت في البداية، وعزفتْ نغماتٍ خاطئة، وبدَت قلِقةً ومرتبكةً، صاحتْ قائلةً (أين أنا؟)، واعتصر قلبي من الحزن، لكنها وجدتْ موضعها وبدأت في العزف على نحوٍ رائع، وراح الصوت يُحلق عالياً ثم يذوب ويلتفُّ حول نفسه، عزَفَتْ ببراعةٍ فنِّيةٍ تامَّةٍ، بكل ما كانت تُظهِره من قوة وشعور من قبل؛ إذ تضخَّمت موسيقا هايدن إلى اضطرابٍ غاضب، أو مشادَّةٍ موسيقيةٍ.
بعد ذلك، عندما أوشكتْ الرباعية على الانتهاء، واتَّجهت النغمات إلى التآلف والثبات النهائيَّين، قالتْ (لقد تسامحتُ مع كل شيء)”.