في الطُّوفان

بينما كان “الطوفان” يُنهِضُ الأرضَ من سباتها وقد قام له جميعُ الأحياء يتفقدون كلَّ ما لديهم وما بقي من زمنٍ هاج فيه شذّاذُ الآفاق وسرقوا ما طالته أياديهم، وهم ينسجون الروايات المتسارعة مع تمزيق الأرض والذاكرة والوعي البشري بأسره، رحتُ أتتبّعُ البسالة الفائقة لقلةٍ من رجال اجتاحوا أرضهم المسروقة لينظفوها ويستعيدوها خالية من “المستوطنات” والغرباء والأدعياء، وفي كل ثانية أحبس أنفاسي لأستطيع رؤية الماء الجارف وهو يعلو في الوديان والوهاد ويصل إلى القمم، لا أريد أن يضيع مني مشهدٌ واحد! لكن من يستطيع أن يتتبّع كل الموجات العاتية وهو ابن زمن طفح بالظلم والأراجيف وطعنات الشقيق مع العدو؟ لا بدّ أنّ كلّ واحد منا التزم مكاناً على مدى إحساسه ومشاعره وبصره وبصيرته!
كانت بنت الجولان تكتب منشورات بلا توقف، وتضع العلم السوري بفخرٍ على صفحتها، هي الممتلئة باليقين والأمل أن “الطوفان” سيصل إلى أعتاب “مجدل شمس” ينظفها ويطوّح بالمراوح الهوائية التي تسمّم بساتين التفاح، وتفتح الطريق إلى عاصمة القلب دمشق! كانت “نهال” تتحدث إليّ من هناك فأشعر أنها في حيٍّ مجاورٍ للحي الذي أعيش فيه، وتزودني بالأخبار التي لا تتناقلها وكالات الأنباء أما قلبانا فيخفقان لكل خبر يحطّم أكاذيب “أساطيرهم” لكن صفحتها اتشحت فجأة بالسواد والصمت!!
روت لي “نهال” على الخاص، أنها حوسبت وسوئلت وهُدّدت وطلب منها أن تحذف كل ما كتبته، وهي ذاهلة من طلبات تريد محو هويتها وذاكرتها، يعني وجودها! نعم يا عزيزتي، رغم كل قوتهم التي يتكبرون بها على شعوب الأرض، تزعزعهم نافذة صغيرة على وسائل التواصل، وقد أخرجوا من أجل هذا حتى “وحش” التكنولوجيا ليخدمهم، وإنني لأطالع أخباراً خرافية عن “طوفانهم” المقابل الذي جيّشوا له جيوشاً تنقّب في الصور التي تملأ الفضاء: شيخ فلسطيني يرفع العلم السوري في مخيم “جنين! هاتوه! صبية أمريكية تناصر القطاع الذي يُدمّر بيد رئيس بلادها، يُجرى لصورتها “زوم” وتُعرف هويتها مفصلة! هاتوها! بطل رياضة سباحة عربي يرفض التتويج إكراماً لدماء الأطفال الأبرياء (متى لم يكن الأطفال أبرياء خاصة في الحروب) تُمسح صوره عن منصات التواصل ويُنزع منه اللقب! وآلاف القصص التي لن تنتهي، لأنها ببساطة قصص تتعلق بفلسطين!
“نهال” الغالية: “طوفانهم” لفظ أنفاسه الأخيرة أما طوفاننا المبارك فحين ينحسر سأتجول معك في بساتين التفاح حول بيتك، وسنجلس على شرفة بيتي في قلب دمشق لنقلب الصور والذكريات ونحن نرنو إلى السفينة العظيمة التي صنعتها معجزات المقاومين…

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار