الغناء للآلهة والموتى والحزن والفرح ..رحلةٌ قصيرةٌ في تاريخ الموسيقا
تشرين- إدريس مراد:
الغناء والموسيقا من أقدم الفنون تاريخياً عند الشعوب، وهناك من يقول إن الغناء سبق الكلام، إذ بدأ الإنسان يقلّد أصواتاً من الطبيعة (الريح، العصافير، الحيوانات…)، كما عبر عن عواطفه وحالاته المختلفة (الحزن، الفرح…) بألحان تجسد هذه الحالات، ورافقت الموسيقا الإنسان، وساهمت في أهم المنعطفات التاريخية في الحياة البشرية.
ويرى العلماء أن للموسيقا قدرة كبيرة وإمكانات تربوية خاصة في تشكيل شخصية الطفل، إذ يبدأ أول ارتباط للطفل بالموسيقا من إنصاته لدقات قلب أمه، وأوضحت بعض الدراسات أن شخصية الطفل تتركب من مكونات عدة، الجسمية منها والعقلية والانفعالية والاجتماعية، إذ يتفاعل بعضها مع بعض، وللموسيقا قدرة مدهشة على تنمية هذه المكونات لشخصية الطفل، والأغاني التي ترددها الأم لتهدهد بها طفلها خير دليل على ذلك.
آلات من عظام الحيوانات
في العودة إلى السياق الأول، فقد استعمل الإنسان فمه في الغناء كأول آلة موسيقية ويده في التصفيق وقدمه في الضرب على الأرض، ومع مرور الزمن اخترع أولى آلاته الموسيقية من عظام الحيوانات وجلودها والأخشاب، وفيما بعد اخترع بعض الآلات الإيقاعية مثل الطبول والصنوج والأجراس، ومن ثم الآلات النفخية مثل الناي والمزمار والبوق، وأيضاً الآلات الوترية مثل العود والطنبور والقيثارة.
وقد انتقلت الموسيقا من الحالة الغريزية إلى التدوين مع تطور الحضارات، لتكون وسيلة تواصل حضارية بين البشر ، وكذلك تعبير إنساني يخاطب العقل ويلامس الروح، إذ اكتشفت أول نوتة موسيقية في العالم على أرض سورية في مملكة أوغاريت، وهي لحن لكلمات كتبت باللغة الحورية، وظهر أن هذا الرقيم الأوغاريتي سبق النوتة اليونانية بألف عام، ما يؤكد أن أصل الموسيقا يعود إلى شرقنا القديم، وأول من قام بتأويل لهذا الرقيم الأوغاريتي هو العالم الموسيقي البريطاني ريتشارد دمبريل، وذلك في العام 1991.
السومريون والموسيقا
ظهرت الكتابة عند السومريين نحو 3200 سنة قبل الميلاد، وهي بذلك تعد أقدم أبجدية عرفها التاريخ، وقد عُرفت بالكتابة المسمارية، لأنها كانت تُكتب على ألواح طينية بآلة حادة لتعطي رسوماً تُشبه المسمار، وقد نقلوا من خلالها الكثير من العلوم، وترك السومريون بعض القطع الأدبية التي ترجمها الباحثون منها ملحمة جلجامش وهي أول عمل أدبي تجاوز بيئته آنذاك، وانتشر في أنحاء العالم، وتسمى حضارتهم بحضارة بلاد مابين النهرين نسبة إلى مكان نشأتهم بين الدجلة والفرات، ولعبت بلاد سومر دوراً كبيراً في وضع أساسيات الموسيقا والغناء والرقص والاحتفالات الدينية والشعبية، وأيضاً في صنع الآلات الموسيقية التي استعملت فيها في بابل وآشور وأرض كنعان، ولقد بدا في النصوص المسمارية أن معظم موسيقيي ذلك العهد كانوا من الكهنة والعاملين في المعابد، كما هناك الكثير من المشاهد التي تدل على أن المرأة قد ساهمت في تلك الاحتفالات بالعزف على مختلف الآلات الموسيقية، ويبدو من تلك الرموز أن السلم الموسيقي كان سباعياً، لأن بعض النقوش التي ظهرت فيها الآلات الموسيقية الوترية عليها سبعة أوتار وبعضها ذات أربعة عشر وتراً، والناي السومري كان يطلق عليه (آمين أه) ويعنى سبعة أصوات، كما استعمل السومريون في عصرهم الطبل بأحجام مختلفة والناي والمزمار المزدوج والبوق والدف والزقصال، وهي آلة شبيهة بالهارب والبانتور التي هي الطمبور عند شعوبنا اليوم.
الموسيقا عند الفينيقيين
فينيقيا تعني باليونانية (البلد الأرجواني) حضارة قديمة نشأت في شرق البحر الأبيض المتوسط وغرب الهلال الخصيب 2500 عام قبل الميلاد، شملت المناطق الساحلية في فلسطين ولبنان سورية، واستخدم الفينيقيون أبجديتهم الخاصة، وتعد أقدم أبجدية أيضاً واكتشفت في أوغاريت السورية، وأصبحت واحداً من أكثر أنظمة الكتابة استخداماً، وكما اهتم الفينيقيون بالتجارة والعلوم والآداب، اهتموا أيضاً بالموسيقا والغناء، وخصوصاً الدينية منها، فحجّوا إلى هيكل بعل (إله الطرب والرقص عند الفينيقيين) في معابدهم، لتقديم النذور والعبادة ولأداء الأناشيد والموسيقا والرقص إرضاءً لآلهتهم، كما أقاموا لأدونيس (حبيب عشتار أو أفروديت)، وكانت حياته وموته رمزاً لدورة فصول السنة، ففي الخريف والشتاء يموت كما يموت النبات، وفي الربيع والصيف يبعث من جديد، كان يقام له احتفال ديني في أول الربيع من كل عام، يسيرون في موكب كبير إلى نهر أدونيس (نهر إبراهيم حالياً) فتيةً وفتيات ورجال دين، يرتّلون الأغاني الحزينة، وتصاحبهم فرقة إنشاد على نغمات الناي، وعندما يصلون إلى المكان المقصود، تتعالى دعواتهم وابتهالاتهم، يغمسون تمثال أدونيس في النهر، يعودون بعد ذلك إلى المدينة فرحين على أنغام الأبواق وقرع الطبول، معتبرين أن الإله استجاب لهم، وتحوّل مناخهم من أجواء الشتاء والبرد والعذاب والقهر إلى أجواء الربيع، إضافة إلى هذه المراسم، كان الفينيقيون يشيّعون موتاهم على أنغام الناي والطبول وأصوات النادبات، كما كانت الموسيقا لديهم حاجة تتطلبها حالات الأفراح أيضاً، في الأعراس والأعياد ومواسم الحصاد، إذ زاولوا الغناء والعزف والرقص في تلك المناسبات.
المغني الأول في العصر الأموي
لا يخفى على أحد أن العرب وجل شعوب المنطقة تعرفوا على الغناء والموسيقا كغيرهم، واستخدموا آلات كالمزهر والقصّابة والصنج (الجنك) والطبل والجلاجل، وفي العصر الإسلامي اقتصرت الموسيقا على الصوت وأثره الجميل في الترنّيم وفي تلاوة القرآن الكريم وفي الأذان، ولكن هذا لم يمنع ظهور أول موسيقي في الإسلام وهو طويس، ومغن آخر اسمه سائب خائر، وهو أول من غنى بالعربية الإيقاع المسمّى بالثقيل الأول.
تطور فن الموسيقا والغناء في العصر الأموي، وزاد تطوراً في العصر العباسي، ولم يقتصر اهتمام العرب بالموسيقا والغناء على بلاد المشرق، بل وصل إلى بلاد الأندلس، لتدخل الموسيقا إلى حياة الشعب الأندلسي، وتصبح جزءاً لا يتجزأ من كيانه، وكان الحدث الأبرز في ذلك العصر، قدوم المغني والموسيقي زرياب إلى قرطبة سنة 808م، وتأسيسه مدرسة لتعليم الموسيقا والغناء في قرطبة، واستفاد الغرب من أسلوبه في العزف في تطور موسيقاهم إلى متعددة الأصوات، ما يسمى في علم الموسيقا (الهارموني).