«جمل المحامل» ضاع في المحافي

سليمان منصور، فنان تشكيلي فلسطيني، عاش أيام وعد بلفور و«سايكس بيكو»، والنكبة رسمها، وأتقن استثمار أدواته الفلسطينية من طين وألوان مائية وفخار… ودرس الفن التشكيلي في الأرض المحتلة، واشتغل في فعاليات كثيرة في «الأونروا»، وناهض الاستعمار بلوحاته، وفي عقر دار معارضه، وربح الجائزة الأهم بلوحة استمد فكرتها من مخزون ذاكرته عن العتال ، ما قبل «التركتور»، والذي كان يستخدم كتفيه لحمل الأثقال.

منصور رسم العتال بتفاصليه، وحمّله بدل الجعبة والأحمال مدينة القدس بشوارعها وبيوتها وقبة الصخرة محوطة بخط مقوس على هيئة عين بشرية، وقد نالت لوحة العتال كل الرضا في معرضه المشترك الأول للفنانين الفلسطينيين في الأرض المحتلة.

ولجمالها، ووفرة تعبيرها، اختيرت لتكون صورة تطبع كملصقات فلسطينية، بعد أن عنونها الكاتب إميل حبيبي بـ(جمل المحامل)، وقد سرقت اللوحة الأصلية، وفقدت فيما بعد اللوحة البديلة، ليكرر الفنان منصور رسمها للمرة الثالثة بتفاصيلها الأساسية. معلومات استمالت خاطري في البداية، لكنني، وعلى الرغم من عبقرية اللوحة ومغزاها، استهجنت تأطيرها، واستفزتني المساحة البيضاء الفارغة من أي دلالة واضحة على وجود الاستعمار، وأنا الطماعة جداً في النيل ما أمكن من شأن الأعداء.

بينما تكرار رسم مأثور مأسوي ثلاث مرات، ألهذا الحد آلام شعبنا الفلسطيني مختصرة بـ«بقجة» أوجاع ونزوح ونكبة؟

وإذا ما كانت إحداثيات الانتفاضة وأطفال الحجارة في فلسطين أم في خريطة لونية أخرى؟

وبدأت بكيل الاستفهامات على الفنان، فجمل المحامل يرسمها فلسطيني مهجر، أما من ذاق الاحتلال والتقسيم وموت الأهل والجيران، فحدقة عينه يجب أن يملأها مخزوناً أحمر وباروداً وناراً.. كيف لا.. وهو محوط بكم هائل من الأخبار و بثّ حيّ ومباشر لعناوين تلفزيونية عن وطن ضحية وأشلاء ناس أصلاء؟!!

استفهام ما لبث أن تحول لحسرة، بعد أن أكملت قراءة السيرة الذاتية للفنان الفلسطيني سليمان منصور الذي اعتقل أكثر من مرة، وفُتش معرضه مرات ومرات، وصودرت منه بعض اللوحات.. يا الله كم وكم أتمنى معرفة المُصادر من اللوحات، هل كانت مئزراً بيد طفل فلسطيني، والكيان هو بؤبؤ عين ينزف دماً، أم إنها حجر صلب يهرس يافطة مكتوباً فيها اسم مدينة فلسطينية بالعبرية!!

استفهامات سكنت لها، وتعلمت منها، ألا أستعجل في قراءة اللوحات، ولا حتى رفع سقف الأمنيات فوق حدود المستطاع.

لكن تبقى التحية، كلّ التحية لفنان خلد القضية، بينما غيره بالجمل وما حمل اشترى وباع.

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار