ملف «تشرين».. حرب تشرين التحريرية تختم نصف قرن.. التاريخ أقرب إلى أن يُعيد نفسه.. ما زال الرهان على سورية ولكل مرحلة معاركها وميادينها وقادتها

تشرين – مها سلطان:
من حرب تشرين التحريرية 1973إلى خيمة المقاومة في مزارع شبعا 2023.
مرّ نصف قرن بالتمام، ما زالت الهزيمة قائمة ماثلة، لا يمكن للعدو الإسرائيلي بأي شكل أن يُنكرها، أقصى ما يستطيع قوله إنه «نجا» من الكارثة، وهذا كما يعرف الجميع يعود بالمطلق للدعم الأميركي.. وإذا كانت الولايات المتحدة استطاعت انتشاله جزئياً من الكارثة في تشرين الأول من عام 1973 إلّا أنها لم تستطع- رغم مرور خمسين عاماً- أن تنتشله من كوابيسه حيال أنه لا يمكن أن تكون هناك حرب مماثلة.
ما زال العدو الإسرائيلي يعيش على وقع حرب تشرين التحريرية وكأنها لم تنتهِ، وهي لم تنتهِ فعلياً، رغم أن الولايات المتحدة أشعلت المنطقة بكاملها حروباً وصراعات في سبيل ذلك.. لكن العدو الإسرائيلي ما زال يقف على «رجل ونص» متأهباً ولكن مرتعداً على وقع حرب يترقبها دون أن يعرف ساعة «صفرها» ويدرك تماماً أنها إذا ما وقعت فهي حرب مصير نهائية.
لا يحتاج العدو الإسرائيلي إلى الذهاب بعيداً في التحليل والبحث والدراسة لمعرفة ما إذا كان قادراً على رد حرب جديدة، أو ما إذا كانت الولايات المتحدة ستعمل مجدداً على منع الكارثة.. لا يحتاج لإطلاق تهديدات «باستخدام القوة الكاملة» كما قال مسؤولوه مؤخراً مع اقتراب ذكرى حرب تشرين التحريرية، تستطيع «إسرائيل» استخدام «كامل القوة» ولكن هل بإمكانها رد الهزيمة؟
العدو الإسرائيلي أكثر من يعرف جواب ذلك، وهو الذي وقف عاجزاً أمام خيمة نصبتها المقاومة الوطنية اللبنانية في مزارع شبعا، فكيف سيكون حاله مع حرب أخرى مثل حرب تشرين التحريرية.

حرب تشرين التحريرية كانت حرب أمة واحدة.. وعندما تحقق النصر كان كل جيش عربي وكل جندي عربي وكل مواطن عربي يحق له أن يفخر بالنصر ويعدّ نفسه مشاركاً فيه وصانعاً له

وحتى لا يتهمنا البعض بالمغالاة، ممن يقولون إن لا حرب أخرى مماثلة، وأقصى ما يمكن توقعه معركة محدودة الأطراف والميدان والأهداف والزمان، نقول: لا بأس لتكن كذلك، ولكن حتى هذه المعركة المحدودة ترتعد لها فرائص العدو الإسرائيلي، وهي لا بد قادمة، فالمنطقة المشتعلة منذ 13 عاماً لن يُطفئ نارها سوى (حرب/ معركة) جديدة تحدد بصورة نهائية مصيرها، خصوصاً مع العدو الإسرائيلي.
لمن يُشكك أو يُجادل فيما سبق، أو لمن يأخذه إثم الإحباط والتشاؤم، فيعمل على تعميمه، ولاسيما المتعمدون منهم، دون أن ننسى طابور المتآمرين والمتخاذلين.. نردهم إلى أحدث ما نشره الكيان الإسرائيلي من وثائق ومقابلات، أسرار وخفايا، لمناسبة مرور خمسين عاماً على حرب تشرين التحريرية، مع سيل من التحذيرات حيال الانقسام السياسي والضعف والتفكك الذي تعانينه «الجبهة الداخلية» وأخطرها ما هو ديني تمثل في المواجهات التي اندلعت قبل نحو أسبوعين في عدد من الساحات، وفيما تتسع المخاوف من تحول كل ذلك إلى «حرب أهلية»، فإن العدو الإسرائيلي سيكون في أضعف حالاته بمواجهة أي جبهة خارجية حتى لو كانت محدودة.
الأبرز فيما نشره الكيان الإسرائيلي مقابلة لهنري كيسنجر، الشهير الغني عن التعريف، متضمنة لأدق التفاصيل المخزية والمُذلة، مؤكداً أنه لولا الدعم الأميركي لكانت حرب تشرين، هزيمة كاملة ساحقة لـ «إسرائيل» قائلاً: «لقد غيرنا شكل الحرب وخريطتها.. أردنا منع العرب من تحقيق انتصار».
«كانت إسرائيل تنهار أمام الجيشين السوري والمصري اللذين كانا يتقدمان على كل الجبهات» يقول كيسنجر الذي كان وزيراً للخارجية آنذاك، ويضيف: كان علينا التدخل بصورة حاسمة، كنا مصممين على منع أي انتصار عربي، وعلى إعادة الوضع إلى ما كان عليه.
وما لم يقله كيسنجر حينها، إن الهدف الأساس الذي عملت عليه الولايات المتحدة طوال العقود الماضية، هو منع حرب ثانية على غرار حرب تشرين 1973.

«إسرائيل» تيقنت أنه لا تفوق عسكرياً يحميها ولا دعماً أميركياً..

وأن سورية هي الرقم الصعب لذلك كان التركيز الأميركي- الإسرائيلي الأشد هو على سورية

لم تتكرر حرب تشرين التحريرية، ولكن ليس لأن الولايات المتحدة أرادت ذلك، أو أنها نجحت في منع تكرارها، كما أنه ليس بالضرورة أن تتكرر بالصورة نفسها، فلكل مرحلة معاركها وميادينها وقادتها، يكفي أن حرب تشرين التحريرية أسست لتشكيل محور مقاومة كامل في المنطقة، كانت سورية على رأسه، وهو المحور الذي حقق انتصارين كبيرين في عامي 2000 و2006 لا يزال العدو الصهيوني يتقلب على نارهما حتى الآن (ولا ننسى انتصار غزة عام 2005).. وعليه لم يكن نصر تشرين وحيداً يتيماً مقطوعاً من جذع التاريخ كما أرادت له الولايات المتحدة الأميركية.. وكما كان متزعمو الكيان الإسرائيلي «يخشون فناءه» في حرب تشرين فهم لا يزالون على الخشية ذاتها، بعد مرور خمسين عاماً عليها، بل هي تضاعفت إذا ما أضفنا إليها التهديدات الداخلية.
*** ***
إذاً خمسون عاماً مرت، وإذا كان الكيان الإسرائيلي سعى في ذكرى هذا العام الخمسين إلى أن يُفرج عن كل الوثائق المتعلقة بها أملاً في إغلاق ملفها كحالة انهزامية ملتصقة به، فهو لن يتمكن من ذلك، صحيح أن الزمن دار دورة كاملة تغيّر معها كل شي في المنطقة، إلّا أن سورية ما زالت الاستثناء بوفائها لثوابتها ومبادئها.. على العهد صامدة رغم رياح العدوان والحرب الإرهابية التي تعصف منذ 13 عاماً.
في قلب كل سوري ووجدانه ما زال نصر تشرين حاضراً بقوة يستمد منه زاد الصمود، والقدرة على المواجهة، والاستمرارية في تقديم التضحيات في سبيل عودة الوطن آمناً مستقراً.. إنها روح تشرين التي لم تغادر، وكأنها حرب وقعت في الأمس فقط.
في كل انتصار للمقاومة (ومحورها) كان نصر تشرين في عام 1973 حاضراً بقوة. في ذلك العام أمسك العرب – ولأول مرة منذ قرون – لحظة تغيير مجرى التاريخ لمصلحتهم، وكان لهم ذلك، لولا نكوص بعض العرب في لحظة الحسم وإدارتهم الظهر لسورية ولنصر تشرين، لكن تلك اللحظة، لحظة النكوص والخذلان، بقيت حيّة كقوة دافعة أعاد محور المقاومة الإمساك بها ليغير مجرى التاريخ من جديد، ولتكون سورية دائماً في القلب، ولتؤكد على الدوام أنها عصيّة على السقوط وأن أحداً لا يستطيع تغييب نصرها في تشرين 1973 الذي خطته بدماء أغلى الأبناء، وأوفى الرجال، وأشجع الأمهات.
كيف يمكن تغييب نصر تشرين..؟
– أليست “إسرائيل”، وخلال كل عام من الأعوام الخمسين الماضية، هي من يُخرج في شهر تشرين من كل عام، جزءاً من أرشيف هزيمتها للعلن؟
– أليست هي من لا يزال يجري المحاكمات والمراجعات لما جرى، ولا تزال تعلن وعلى لسان كبار متزعميها أنها – ورغم كل تطورات المنطقة التي تصب في مصلحتها – تخشى أن تفاجئها حرب أخرى كما حرب تشرين التحريرية؟
– أليست هي إسرائيل التي عجزت وبعد خمسين عاماً أن ترمم ولو جزءاً بسيطاً من أسطورة الجيش الذي لا يقهر والتي سقطت تحت أقدام الجيش العربي السوري؟..
العدو الإسرائيلي نفسه هو من يُعلن ذلك موثقاً بالشهادات الحيّة لمسؤوليه آنذاك، ولجنوده الذين كانوا يفرون من ساحات القتال.

في قلب كل سوري ووجدانه ما زال نصر تشرين حاضراً بقوة يستمد منه زاد الصمود

والقدرة على المواجهة، والاستمرارية في تقديم التضحيات في سبيل عودة الوطن آمناً مستقراً

لنقلب السؤال: لماذا لا يمكن تغييب نصر تشرين؟
أولاً، لم تكن حرب تشرين التحريرية حرب جيش عربي واحد أو دولة عربية واحدة، بل كانت حرب أمة بأكملها.. صحيح أنها كانت بطرفين رئيسين: سورية ومصر، إلّا أن جميع الأمة شاركت، إن لم يكن بجيشها (ولو بفرقة أو فرقتين) فمن خلال مظاهرات ومسيرات الدعم الشعبي على امتداد جغرافيا الأمة. كانت حرب تشرين التحريرية روحاً عربية انبعثت بعد مرارة ثلاث هزائم حفرت عميقاً في ضمير ووجدان الشعوب العربية (بعد نكبة الـ 48 ، وعدوان الـ 56 ، ونكسة الـ 67) ومع ذلك لم يكن للأمة أن تنظر للوراء فتزاد الهزائم وتتسع، لم يكن من خيار سوى التقدم لخوض حرب عظيمة فكانت حرب تشرين التحريرية .. كانت حرب أمة واحدة، وعندما تحقق النصر كان كل جندي عربي، كل جيش عربي، كل مواطن عربي، يحق له أن يفخر بالنصر ويعتبر نفسه مشاركاً فيه وصانعاً له.
ثانياً، كانت أول حرب عربية تشاركية حقيقية ضد «إسرائيل» ولا يهم كل ما قيل ولا يزال يُقال عن تواطؤ وخيانات.. “إسرائيل” أساساً لم يهمها كل ذلك بقدر ما همَّها أن العرب أثبتوا أنهم أمة حيّة، أنهم قادرون على التوحد وتحقيق الأهداف، أنهم قادرون على خوض المعارك معاً وتحقيق النصر. حتى اللحظة الأخيرة لم تصدق “إسرائيل” – رغم كل ما سربه لها عملاؤها حول ساعة تشرين التي ستدق – كانت متيقنة بالمطلق بعجز العرب عن خوض حرب نظامية ضدها وهي المتفوقة عسكرياً عتاداً وجيشاً لا يُقهر.. وبدعم أميركي مطلق. أميركا نفسها لم تصدق حتى شاهدت بأم عينها انتصارات الجيشين السوري والمصري حقيقة واقعة.

خمسة عقود مرت.. «إسرائيل» لم تؤرقها الهزيمة بقدر ما أرقها أن العرب

أثبتوا أنهم أمة حيّة قادرة على التوحد وتحقيق الأهداف وخوض المعارك معاً والانتصار فيها

ثالثاً، لم يكن لـ«إسرائيل» أن تتجه يوماً للتفاوض أو تطلبه إلا بعد حرب تشرين التحريرية. لقد أدركت يقيناً أن لا تفوق عسكرياً يحميها ولا دعماً أميركياً.. أول خطوة تفاوض أُجبرت “إسرائيل” عليها كانت بعد أيام قليلة من بدء الحرب، استغاثت بالولايات المتحدة التي أرسلت ثعلبها كيسنجر ليدير عملية التفاوض وليسعى جاهداً لتغيير الوقائع والحقائق، أي ليدفن نصر تشرين ويمحو كل أثر له من التاريخ ..
لكن – ومنذ ذلك الوقت – تيقن كيسنجر أنه رغم التفاوض ورغم نجاجه فيه فإن سورية ستبقى الرقم الأصعب الذي لن يستطيع أحد تجاوزه ، لذلك ولأربعة عقود مضت كان التركيز الأميركي- الإسرائيلي الأشد هو على سورية.. كل أزمة وكل حرب اندلعت في المنطقة بعد حرب تشرين التحريرية كانت سورية أحد أهدافها الرئيسة، في سبيل إضعافها ومحاصرتها.
*** ***
ويبقى سؤال.. لمن يُجادل في أن الزمان دار دورتين كاملتين، الأولى منذ حرب تشرين 1973 حتى عام 2009، والثانية مع بدء «الربيع العربي» وكانت هذه الثانية هي الأخطر باعتبارها استهدفت الإجهاز على روح نصر تشرين، وإغراق الشعوب العربية مرة أخرى في مستنقع اليأس والهزيمة تماماً كما كان حالها قبل حرب تشرين التحريرية.. من هنا نحن أحوج ما نكون لإبقاء روح تشرين حيّة متقدة، وللدفاع عن كل انتصار حققه محور المقاومة، وليس للنكوص والاستسلام لما يريد العدو أن يفرضه علينا كأمر واقع.
لا جدال في أن الأمة اليوم في أحلك ظروفها، وأن عملية النكوص العربي اتسعت وتعمقت، لدرجة أن البعض يقول إنه لا يمكن مقارنتها بظروف ما قبل حرب تشرين التحريرية، النكسة وقبلها النكبة، وبالتالي من الاستحالة المراهنة على حرب تحريرية جديدة.. ولكن أليس هذا ما كان العدو الإسرائيلي يستمر في قوله حتى اللحظة الأخيرة ما قبل اندلاع حرب تشرين التحريرية.. وهذا ما لا يجرؤ اليوم على قوله رغم كل تطورات المنطقة التي تصب في مصلحته كلياً.. لماذا؟
لأن سورية ما زالت خارج هذه التطورات، ما زالت صامدة وتقاتل، وما زال الرهان.. كل الرهان على سورية.

اقرأ أيضاً:

ملف «تشرين».. التاريخ.. عندما تكتبه سورية

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار