الفتى الذي حصل على الثانوية يريد قراءة رواية! لا يهتم بمكتبة البيت المتواضعة التي أسستها الأم بسبب شغفها بالقصص والروايات، بل يريد رواية محددة يعرف من مصدر ما: إما الرفاق، وإما إلماحة من منشور، أنها تتحدث عن شخص يعيش في مجتمعٍ، العُملةُ فيه ليست نقداً بل استلابَ بعض خصائص الشخصية من شجاعة أو تركيزٍ أو تفكير! ويضيف بخجل الجاهل حين الاستعلام عن المؤلف أو اللغة: إنها بالعربية، وهي من الخيال العلمي، لكن لا أعرف كيف أجدها على مواقع البحث!
على هذا المفترق توقفت طويلاً بعد أن كلفتني الأم بمساعدتها: علاقة القارئ العصري بالكتاب! كانت الرواية تقودنا إلى رواية أخرى، والصفحات المتخصصة في المجلات الأدبية ترشدنا إلى المطبوعات الجديدة بتقديم ملخّصات يكتبها محترفو القراءة لنعرف أين نتجه في رحاب المعرفة، وكنا نعرف المكتبات التي تتنافس على عرض الجديد والقديم كأنها كليات جامعية ثابتة بواجهاتها العتيقة وأسمائها المكتوبة بخط عربي جميل، دامت صروحُها قروناً من الزمان، ونذهب مبهورين إلى مشاهدة الأفلام التي اعتمدت رواية أو قصة قرأناها لنرى ماذا فعل بها السيناريو والإخراج، وفي مواسم معارض الكتب كان الروادُ المتزاحمون في الصباح والمساء بين الأجنحة أكثرَ من رواد المسارح والحفلات الموسيقية، وبنوعية تختلف عن زبائن معارض السيارات أو الأسلحة والصناعات الأخرى التي تتقدم مواصفاتها، بينما يحتفظ الكتاب بكثير من الألق والجدوى من دون الخضوع لمجريات الزمن وتأثيره في تحديث المخترعات «النفعية»، أما الهدايا فكان أفخرَها كتاب فريد يحمل توقيعاً ويأخذ مكاناً عند المُهدى إليه وعلى رفوف المكتبة!
الفتى الباحث عن الرواية، تاريخُ قراءاته هو علوم المدرسة عامةً وليس مكتبات الأطفال التي اكتنزت أعمالَ «أندرسن» والتراثَ العربي الذي سحر كاتباً مثل «تولستوي» فكتب لأطفال العالم روائع القصص، ولم يعرفْ كاتباً عربياً وخاصة الكتاب السوريين الذين نشطوا كرياح الربيع في سبعينيات القرن الماضي وغذوا مكتبات البيوت بأدب جميل وموجّه إما في مجلة أسامة، وإما في مطبوعات سخَت بها وزارة الثقافة قصصاً وشعراً، وها هو يأتي مختلفاً عن كل القواعد التقليدية التي ألفناها بين الكتاب وقارئه!
شيئاً فشيئاً يتغير الفضاء «المعرفي» وتنقطع تلك الخيوط التي كنا نمسك بها حين معالجة «النسيج» المتين في معالجة أزمة الكتاب والقارئ، لكن «المؤلف» المعاصر مازال يكتب لقراء «القرية الصغيرة» بمواصفاتها المستجدة، بينما المؤلف «العتيق» سيبقى يكتب كمن يبحث عن ضائع، والضائع هو قارئه التائه في تفاصيل هذه «القرية الصغيرة» التي تشوّهت فيها كل الدروب، وغيَّرت دوافع التعارف والتواصل!
نهلة سوسو
123 المشاركات