في بيتنا قطةٌ!

تشرين- حنان علي:
في الزوايا الهادئة لمسكننا المتواضع، شقت روحٌ غامضة دربها خلسةً إلى حياتنا.. جوهرتا زمرد عيناه، ومعطف بألوان الشمس جسده، استحوذ هذا الزائر على منزلنا كما لو أنّ همسة من السحر منحته حق الوصول على بساطٍ أثيري أوقد داخلنا الفضول لكشف خبايا ضيفنا حارس الأسرار.
تربية حيوان أليف ليست بحدث جديد على حياتي، فما لبثتُ أطوف في بيت أهلي العربي القديم مع قطة انتشلتها من براثن صبية مشاكسين، أو عصفورٍ رممت كسر ساقه، لكن الفراق المحتوم أبى إلا أن يكرهني على الابتعاد عن استقبال أي مخلوق يدبّ أو يطير في منزلي، فلست مع الحزن بقادرة على إقامة مأتم جديد. لكن «ليو» شديد الجاذبية بازدواجيته المتناقضة كسر القاعدة، فلم أعد أقاوم فراقه إبان لحظات العزلة أو الانشغال، خاصة حين يبحث عني بأنغام من الرضا والمواساة في عالم من الفوضى وعدم اليقين.
تاريخٌ سحيقٌ
ثمة كثيرون ممن لا يتفقون معي بوفرة الفتنة المرافقة لتعايش بسيط مع القطط والذي ينحدر بتاريخه سحيقاً إلى العصور القديمة، مع بداية تدجين هذه الحيوانات الأليفة على نحو انتقائي السمات منذ نحو 4000 عام في المجتمع المصري القديم، إذ حظيت القطط باحترام وتقدير كبيرين كمخلوقات مقدسة، وعلى الأغلب ارتبطوا بالإلهة (باستت).. لقد أدرك المصريون القيمة المتأصلة للقطط كرفاق وحماة، ما أدى إلى جهود تربية مقصودة لتعزيز بعض السمات المرغوبة مثل الأجسام الطويلة، والعيون اللوزية الشكل.. هدفت هذه الجهود إلى إنشاء سلالة (الماو) المصري، المعروف برشاقته وجماله الذي أسر المصريين.
ومع مرور الوقت، انتشرت ممارسة تربية القطط خارج مصر، لتصل إلى حضارات أخرى مثل الإغريق والرومان.. ثم وظفت سلالات مختلفة من القطط لأغراض مختلفة، كالصيد.. ومع ذلك، لم تبدأ جمعيات تربية القطط المنظمة وعروض القطط في الظهور إلا في أواخر القرن التاسع عشر؛ إذ أقيم أول عرض مسجل للقطط في عام 1871 في (كريستال بالاس) في لندن، إنجلترا. الحدث أتى بمزلة نقطة تحول مهمة في تاريخ تربية القطط، إذ وفر منصة للمربين لعرض سلالاتهم المرباة بدقة وشجع على تطوير معايير السلالات.
عشقٌ أدبيّ!
الولع العميق بالقطط نال العديد من الكتاب والأدباء أبرزهم بودلير وكوليت بول ليوتار، هيغشميث وروبير دي لاروش، حتى إن ليوناردو دافنتشي لم يتوان عن التأكيد بأن « القطّ تحفة أدبية» ليؤيده فريدريك فيتو في «قاموس حبّ القطط»، جامعاً الأقوال والكتابات في عشق القطط. في حين كتب المؤلف الأمريكي إرنست همنغواي قصة (قطة تحت المطر): «وقفت الزوجة أمام نافذة فندقها، وكانت تتابع تساقط الأمطار فوق الأشجار، ومن خلال متابعتها هذا المشهد ترى قطة مبللة وحيدة تحتمي تحت طاولة مقهى، تشعر بالحزن تجاه القطة فتحاول إقناع زوجها بإنقاذها..» في حين استطاع (بيبير) القط الخاص بالكاتب الفرنسي (سيلين) الإجابة عن تساؤلاته جميعها:( إنه يردّ على جميع الأسئلة، يكلم نفسه، يحاورها داخلياً، مثلما أفعل أنا. إنه وحيد مثلي، الجميل «بيبير» يشبهني في جولاته وتسكعاته) ، وفي ديوانه (أزهار الشر) أثبت الشاعر شارل بودلير أن القطط تلهمه أكثر من المرأة ، أما الرسام الفرنسي هنري ماتيس ، لطالما عبر عن سعادته من مرافقة قطه طوال فترة معاناته من مرضه العضال..
علاج نفسيّ
ما زال العديد من محبي القطط يتبادلون معلومات أن وجود مدلليهم وأصواتهم لها مزايا علاجية قادرة على تقليل التوتر والأرق والقلق على الإنسان، أما العلم فقد أثبت صحة هذه المعلومات، ذلك حسب تقرير نشرته وكالة العلوم الفرنسية بأن أصوات القطط منخفضة التردد، بين 20 و50 هرتز، تتلقاها أعصاب تحت جلدنا ثمّ تنقلها كشعور من المتعة إلى الدماغ، ما يدفعه إلى إطلاق «هرمونات السعادة (الإندورفين، السيروتونين، الدوبامين)».
و في الختام، ما كان ذكر القطط في الأدب والفولكلور والشعر، سوى دليل على تكريس رموز متمايزة من السحر والاستقلال والنعمة والغموض والأناقة، حتى إنها ارتبطت بالحكمة والأهمية الروحية في بعض الثقافات العربية.

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار