تُفعمُ «بخور مريم» أنوثةً في لوحاتها.. الفنانة بلسم الشاطر تسرد حكايتها مع الأشجار تراجيديا لونية
تشرين- علي الرّاعي:
شيءٌ ما، يشدُّ أغلب الفنانين التشكيليين صوب الطبيعة، لعلّ أهمّه؛ هو الضوء الذي يعطي عشرات الإيحاءات لمفردات الطبيعة كما يُعطي عشرات الحالات اللونية للمشهد الواحد مع تغير وقع الضوء عليه، هذا الضوء الذي يُساعد الفنان في أن يمنح مشاعر إنسانية للسهول والسهوب والمنحدرات والذرا والروابي، لمحات حيناً تبدو حزينة، وطوراً تشعُّ فرحاً، وتارةً غموضاً، وهو الأمر الذي يبعد شغل الفنان التشكيلي عن التسجيلية، أو التوثيقية، ذلك أنّ الفنان البائس هو من يُحاول نقل الطبيعة دون الإضافة التعبيرية، التي تمنحها الحالة الانطباعية التي يُوفرها الضوء على المشهد الطبيعي خلال النهار، وفي الليل، وحتى في الشفق، والأغساق.
عن شجر الخابور
غير أن بعض الفنانين التشكيليين، لم يكتفِ بذلك، رغم أهمية هذه الحالة الإبداعية العالية، بل عمل على أنسنة مفردات الطبيعة بكامل المشاعر الإنسانية من حب وامتعاض وحزن وفرح، ألم تستغرب ذات حينٍ بعيد الشاعرة القديمة – الفارعة أو الفاطمة – من شجر الخابور المورق، وكأنه لم «يجزع على ابن طريف» الذي هو أخ الشاعرة الفقيد، وكان عليها أن تلومه وتعاتبه في قصيدة طويلة.
«ﺃﻳﺎ ﺷﺠﺮ ﺍﻟﺨﺎﺑﻮﺭ ﻣﺎﻟﻚ ﻣﻮﺭﻗﺎً / ﻛﺄﻧّﻚ ﻟﻢ ﺗﺠﺰﻉ ﻋﻠﻰ ﺍﺑﻦ ﻃﺮﻳﻒ».
الفنانة التشكيلية بلسم الشاطر؛ هي من صنف الفنانين الأخير الذين حملّوا مفردات الطبيعة وعناصرها، الكثير من الحمولات الجمالية والفنية، وحتى الفكرية.
ثلاث انعطافات
وتجربة الفنانة بلسم الشاطر يمكن تكثيفها في ثلاثة انتقالات، أو ثلاث انعطافات، وهي ليست بالضرورة أن تكون متتالية، أو متتابعة، بل هي جاءت غالباً متساوقة، ومن هنا يُمكن أن نقول عنها إنها ثلاث مجموعات من الأعمال، الأولى هي الاحتفاء بالجسد، في زمن ابتعد خلاله الفنانون عن التشخيص لأكثر من سبب، آخره كان الإبداع بالتأكيد، ومن ثم كانت هذه الهوة المُخيفة في المشهد التشكيلي السوري بهذا الالتباس الذي يُهيمن اليوم على موضوع التشخيص في الفن التشكيلي، ويعود أمر الخوف، وهو خوف أقرب إلى الخذلان؛ لأن الدافع وراء هذا الالتباس هو ثقافة سلفية تفرضها دول نفطية في بلاد الجزيرة العربية.
الانعطافة التالية؛ هي «المرأة – بخور مريم» وفي هذه المجموعة من الأعمال؛ لم تبتعد الشاطر عن احتفائها بالجسد النسوي إلا قليلاً، لكن هنا ماهت بين جسد المرأة وبين نبات تعددت أسماؤه وتعددت جمالياته وألوانه، فهو: بخور مريم؛ الاسم الأكثر شهرة، وهو عصا الراعي، والبوغنينة، والدوغنينة، وغير ذلك، وهو نبات تتدرج ألوانه بين الزهري والأحمر والأبيض والبنفسجي، وهو نبات في مسيرة حياته القصيرة، يُشبه الآلهة القديمة التي تقضي في بدايات الصيف، لتحيا في نهايات الشتاء، وتزدهر وتحتفي بالربيع، ذخيرتها تلك «البصلات» العملاقة، التي تتركها وديعةً في التربة لأجل حياة جديدة.
هذه الحمولات الجمالية والرمزية مزجتها الشاطر مع الحمولات التي يوفرها الجسد الأنثوي من خصب وجمال، وغير ذلك لتتسع دوائر الإيحاء أكثر فأكثر، ومن ثم تعدد القراءات للعمل الفني.
في مجموعة هذه الأعمال توفر الشاطر الحيز الواسع لجسد المرأة بكامل بخورها للانطلاق مع الشجر والريح بكل ما تمنحه للعمل التشكيلي من التوهج العاطفي الذاتي والعفوي المصبوب على حركات الجسد، والتي تظهر إنسانية الفنانة – المصوّرة، هنا ثمة دراما من المشاعر، تتجسد بالتعايش الجمالي للفنانة مع أفضل ما في المشهد المصوّر من نبات وإنسان من مزايا شكلية وتشكيلية، وإسقاطات الضوء، والفنانة هنا أيضاً لا تذهب لتجميل ما ليس جميلاً، وإنما تبحث في التعايش الدافئ للعلاقات بين الألوان والأشياء والعناصر والتكوينات.
ملك الخواتم
في انعطافتها الثالثة، أو مجموعتها الثالثة، وربما هي الأشهر في شغل الفنانة بلسم الشاطر، هي شغلها على موضوعة الأشجار، أو كما سمتّها «حكايتي مع الأشجار».. هنا ثمة شجرة، تحملُ انكسارها، وتمشي كجريحٍ نجا من مجزرة، فيما شجرة أخرى تمدُّ بأياديها تجاه جاراتها، تارةً تتشابك بتوق وشغف، وطوراً تتفلت بخيبة، فيما الجذور لها حكاية أخرى، تتربص، وتتشبث مرةً، فيما في مشهدٍ آخر تخلعُ نفسها، وتخلع ضفافها، وتمشي، تلك بعض ما شكّل هاجساً للفنانة التشكيلية بلسم الشاطر، لتروي حكايتها في غابةٍ من الأشجار.. الأشجار التي تحضر بقوة في لوحات هذه الفنانة التي اتخذت من موضوعة الشجرة، لتشكّل من خلالها غوايتها اللونية.. في مجموعة هذه اللوحات تستنجد بلسم الشاطر بقراءةٍ جوانية موازية لتلك الأشجار التي سمعت في حفيف أغصانها، وحشرجة أوراقها حالاتٍ إنسانية، وذلك بهذه الأنسنة الشجرية من مشاعر وأحاسيس التي ظهرت على ملامح تلك الأشجار، وهي تروي حكايتها للفنانة، أو كلٌّ منهما يروي حكايته للآخر.
في مختلف انعطافاتها، تذهب الشاطر عميقاً باتجاه تعبيرية خاصة، أصبغتها بتلك الحالة التراجيدية للأشجار وأجساد النساء، وأول ما يُلفت الانتباه في هذه «التراجيديا» هو صدق الحالة التعبيرية التي تجعل المتلقي يقرأ أشجار الشاطر وتكويناتها بتأويلات أخرى عما تعوّد أن يتلمسه باعتياده اليومي واضعاً الحالة في مناخ شعري يفتح أبوابه على ما يمنحه المجاز من تأويلات، وذلك بإضفاء هذه المشاعر الإنسانية على كل ما يُحيط بها من نساء وأشجار وبخور مريم، فإن بلسم الشاطر تذهب في بعض «شغلها الشجري» صوب مناخات السوريالية إن صحّ التعبير، وفي حالات أخرى تأخذ منحى الفانتازيا، وستكون الشجرة بما توحيه من أفكار في ذهنية المتلقي؛ هي الحامل لكل دواخل هذه الفنانة من هواجس، وهموم، وقضايا، وأفكار.
في تنويعاتها على هذه «الحالات» الموضوعات الإنسانية، ثمة سعي لكشف؛ ما هو غير مرئي ليصبح محسوساً، بضغط اللوحة سواء كان لونياً، أو مفردات وعناصر، كمعادلٍ واقعي لازدحام المعاناة وانكسار الإنسان في عالمٍ يبدو فيه في مهب الضياع والخوف، والخذلان، كل ذلك ستكوّن العناصر «المحسوسة» في أفلمة اللوحات، أو سينمائيتها، إذ ثمة مشهدية تميل لأن تكون من أبرز ما يُلفت في لوحات الفنانة الشاطر، وربما هي من الحالات القليلة التي تبدو فيها اللوحة كفيلم سينمائي، وهنا حيث البطولة للأشجار، وبخور مريم المتماهي مع جسد المرأة، حتى يكاد يلتبس علينا الأمر من يلبس الآخر؛ بخور مريم، أم جسد المرأة، كما تأتي التسمية لتُعمّق في تأكيد هذه الحالة الجمالية الكيميائية «بخور مريم» وقداسة هذه الاسم بمفردتيه: بخور ومريم، ومن ثم فهي تُغوي طوراً، وترقص تارةً، وتسعى للخلود والعشق في أحيان أخرى، – شجراً ونساء البخور – تقوم بكل ذلك بـ «الإنابة» عن الإنسان، التي حملت مشاعره، وأحاسيسه، وهنا ستدخلنا الفنانة في أجواء مشابهة لأجواء فيلم «ملك الخواتم» الذائع الشهرة الذي بنى أحداثه على تلك الأشجار المتحولة التي تخلع جذورها وتهب مناصرة صوت الحق..!!
نساء البخور
في هذه التوليفة اللونية التي تنشدها الشاطر، سيتطوع اللون ليحمل بعضاً من هذا «العبء» الذي قامت به الأشجار وأقصد خطوطها كحوامل مثل: الرمادي مع عروق البنفسج، والكحلي، وتدرجاتهما، بل إن ثمة انجدالاً خاصاً بين هذه الفنانة وتدرجات اللونين الكحلي والبنفسجي، اللذين تطرحهما على خلفيات من بقع الترابي، بحيث إن الألوان هنا تخرج من سياقات دلالتها الأولى باتجاه مشاعر مغايرة وجديدة، لتكمل ما توقفت الخطوط عن حكايته في قول الرواية اللونية، فثمة أشجار تسقط، وأخرى تبقى في غايتها الاستمرار وخوض معركة الوجود، ورغم ما تُوحي به مفردة الشجرة من تجذر والبقاء في المكان غير أنّ الحالة البصرية التي قدمتها الشاطر، وكأن كل الكائنات في مهبّ الارتحال، وما العناية بالجذور الضخمة اللافتة في لوحتها إلّا كانطباع وإحساس كاريكاتوري، بتصويرها لتلك الجذور بالأقدام التائهة في خطواتها، حتى جذوع الأشجار جاءت على هيئة سيقان حيوانية، ذلك ما سعت الفنانة لتطرحه رغم كل هذه الجرعات من السوريالية، والفانتازيا العالية.. غير أنها لا تنفكّ تمدّ بمجساتها صوب «واقعية» شديدة في مرارتها التراجيدية. لكنها تقول كل ذلك بغنائية لونية ممزوجة بأشعة ضوءٍ قادم من بعيد في غابة الأشجار، ضوء لا تُخطئه عين، توليفة جمالية تزيد في الحالة الشعرية والدرامية للعمل الفني.