علي إسبر وتراجيديا وطن خلف متراس الوصايا
تشرين- راوية زاهر:
(حين يقاتل الصّبار)؛ توليفة مأساة تختصر تغريبة وطن لجنود خطّوا حكايتهم تحت سماء الدخان وزغردة القنابل، رواية للكاتب علي إسبر والصّادرة عن الهيئة العامة السورية للكتاب.
و(حين يقاتل الصّبار)؛ عنوان الرواية ما هو إلا رمز يقذفك إلى عالم العطاش في زمنٍ رديء، حين يتحوّل الجندي إلى شجرة صبار يتحمل العطش والتعب والفراق والحزن والجوع في زمنٍ مفروض عليه الصبر والمقاومة، والحصار لمواجهة حروب بوكالة الدم والحقد والتوحش، ليصير فيما بعد حكاية تضاهي في غرابتها قوانين الطبيعة والوجود ويصير الموت زادَ الحياة الأبدية في عوالم العطاء والتضحية والوفاء.
قامت الرواية على فكرة مستمدة من أرض المعركة، حكاية لشبّان جمعهم الحصار، فقاتلوا حتى الرمق الأخير، وحكايات حصارهم الطويل حملتهم على فكرة تدوين قصصهم، إذ أخذوا على عاتقهم ميثاق إيصال الوصايا..
وكان القرار منبثقاً من شعورهم المرّ بعدم العودة..
وهذا ما أضفته نظرة الاستلهام من الواقع المعاش الذي يقوم على الصدّ والرد والكر والفر والتنقل من مكانٍ إلى آخر، راسمين صورةً مشرّفة عن إيمان فتيةٍ يضعون الموت نصب أعينهم، ويقاتلون بكل ما أوتوا من إيمان.
ومن العناصر الروائية كان المتن الحكائي الذي يقوم على مجموعةٍ من الأحداث المتتالية، والتي يتمّ إخبارنا عنها بالتتابع الزمني والسببي، وحالة الصراع المرافقة، لكلّ حالة من حالات الاستشهاد للأبطال الثلاثة، وحالة الصراع الداخلي للشخصية نفسها،
فالتفكير بالأهل والأم والحبيبة والزوجة والطفل.. يقود إلى حزنٍ خفي، يحاولُ كلُّ بطلٍ إخفاءه عن صاحبه لتبقى الروح عالية التوّثب والهمة حاضرة..
وفي لحظة استشهاد كلّ بطل؛ يتولد صراعٌ جديد وإصرار حاد على الانتقام والصبر.. والمبنى الحكائي قام هنا على العلاقة التي ربطت الجنود ببعضهم.. وطريقة تقديمها عن طريق مسامرات ليلية، جعلت
الأبطال يتعاهدون بنقل الوصايا ومعرفة قصص بعضهم البعض ليعينهم ذلك على صقيع البراري وجوع الأيام، وحتى يكونوا عبرةً تدرّس في مدارس عشق الأوطان والصّبر على نوائب الأقدار..
فمن المتن الذي حوى مادة الحكاية إلى الخطاب الذي يتمحور حول الحكاية فنياً؛ تظهر لنا أشكال الزمن المتنقل والصّيغة السّردية ووجهة نظر الراوي.. وسرد الشخصيات والأصوات المتعددة وتنوعها..
ولنصل إلى الحبكة، إذ رتّب الراوي حوادث قصته وسردها ووصل مع كل شخصية إلى ذروة التوتر السردي لحظة الرحيل في أكثر من مكان، سواء الرحيل عن الحياة المدنية الأولى أو الرحيل الجسدي الثاني بشقيه من أرض المعركة، ومن عالم الأحياء، .
وقد خضعت الحبكة في كلا الرحيلين للنظام النّفسي والزّمني.
أما شخصيات الرواية، فهي التي حركت سياق الأحداث، وقد زاوج الروائي بين معطياتها الاجتماعية والنفسية والفكرية مغرقاً إيانا في عمق واقعيتها.
وما يميز هذه الرواية شخصياتها المحورية التي لا تقل قيمة إحداها عن الأخرى، والشخصيات الثانوية تمثلت في أهل كل شهيد وأسير، والمعينة على الحدث تمثلت بالجنديين المحررين لتتداخل الصفات النفسية فيما بيها..
وقد دخلت نبتة الصبار في التوظيف لتقنية الأنسنة لتكون مثل واحد من الجنود المرافقين الباعثة على الصبر والأناة والحب.. كما استخدمت الطريقة غير المباشرة أو التمثيلية، إذ تُرك لكلّ شخصية أن تعبّر عن نفسها سواء عن طريق سرد قصتها أو كتابة وصيتها.. فتبلورت المشاعر بدقةٍ أمام القارئ، وانكشفت أبعاد كلّ شخصية من خلال تصرفاتها وانفعالاتها.
وأما الزمان والمكان فيعومان على بحرٍ من الأسى المتنقل، متراس ومكان محاصر، متفاعل بحدّ وجوده مع الشخصيات ليشكل جزءاً من كينونتها مع اللغة والأساليب الفنية، وأمّا الزمان فارتبط بالتاريخ الحقيقي لويلات الحرب في بداية أحداث التغريبة السورية الطويلة.. فما بين الزمن الخطابي وزمن المتن الحكائي ظهر النسق الزمني الصاعد متمثلاً في ترتيب الحوادث بهيئتها البسيطة (بداية، وسط، نهاية).
وأما الحوار فتنوّع في الرواية بين المونولوج الذي ظهر بعمق ساعة خروج (يامن) للانتقام ل(علاء) و(جابر). حيث قال لنفسه: “لا أعلم حتى الآن كيف لم تصبني رصاصاتهم، كيف لم يروني!”
أما الحوار بين الشخصيات، فتمثل بدايةً في التواصل الصوتي عبر الجوال بين الأهل وأبنائهم.. وكذلك حوارات الأصدقاء الرشيقة فيما بينهم ومسامراتهم وشكواهم.. فأضفى الحوار حيوية على السرد الروائي.
كما كشف الحوار عن عمق الشخصيات النفسية..
فيما جاءت اللغة متميزة بالشاعرية في بعض الأحيان ، وارتبطت بالمعجم اللغوي للحرب، فكثرت ألفاظ (الحصار، المتراس، الحرب، القناص، الانفجارات، السيارات المفخخة) وغيرها..
وكذلك حضر الرّمز بقوة، فنبتة الصبار ورمزيتها المرتبطة بحبيبة صابرة.. لوح الخشب.. وثيقة الحصار، الرسائل رمز لاستمرارية النضال وتوثيق الوجع ورحلة الشقاء.. كذلك حضرت المعاني دلالياً كما يتوجب.
ليختم الكاتب بتسطير أمجاد الأبطال وبعضٍ من سجلاتهم المضيئة ما بين (جابر) المحاصر الذي انتظرته محبوبته كما أهله ولم يعد، وصبارته الشاهدة على مسيرة تعبه وجوعه، وقد فك الارتباط مع الحياة، وها هو خالياً إلا من أشواقه وعذاباته يرحل دون وداع.. و(علاء) الهارب من وجعه الذي تقاذفته فوضى الحياة من غربة إلى غربة.. كذلك رحل تاركاً خلفه طفلة يتيمة وزوجة حزينة وأماً ثكلى وعلى مسامعنا هنا تليت علينا وصيته، و(يامن محمود) الذي حفر على لوح الخشب أيام الحصار بساعاتها وتعدادها..
وهكذا تنتهي الرحلة، بمجيء الجيش السوري وفُك الحصار، وحُملت الوصايا، ومنها المصحف الذي كان برفقة (علاء)، ولوح الخشب الذي تركه (يامن)، ونبتة الصبّار التي رافقت الضحايا، وحملت الرسالة ونفذت الوصايا..
بقي أن نشير إلى أن الرواية قائمة على تدوينات لثلاثة مقاتلين في الجيش السوري خلال حرب السنوات العشر على سورية، أي أنها مبنية على وقائع حقيقية..