اللاّشعور الجغرافي
تشرين- إدريس هاني:
لعبت المافيا الإيطالية دوراً استراتيجياً في إيجاد نوع من توازن القوى، لأسباب عديدة:
– أولاً، لأنها جعلت من قطاع المال مجالاً لمعاركها الكبرى، ولم تدخل في أي منافسة ذات طبيعة رمزية أو ثقافية تقتضي تغيير العالم.. بتعبير آخر لم تحمل مهمة الحرب الحضارية ولا حتى الحرب النّاعمة.
– ثانياً، لأنها اعتمدت فكرة الدولة داخل الدولة، أي دخلت في سباق حول المعلومة، وحيث إن لها «داتا» خاصة بها فهي تعتمد تقاسم المجال، وبهذا فإن سرّ نجاح عملياتها يقوم على وفرة معلوماتها وجودتها وأسلوب حمايتها.
– ثالثاً، لأنها تعتمد التقاليد الباترياركية، أي نهج أسلوب ولغة أبوية، تجعل خمس عوائل كبرى مثلاً لمافيا الولايات المتحدة، موصولة بقنوات تقليدية، يلعب فيها الوفاء وثقافة العائلة دوراً كبيراً.
– رابعاً، لأنها تخضع لنظام صارم، يبدو متوحّشاً في معاقبة الخونة، لا يوجد في المافيا أعضاء غير مستعدين للتضحية، فهم في نظامهم الداخلي ليسوا منظمة انتهازية، بل منظمة تقوم على المخاطرة.
لا تحتاج المافيا إلى دولة بمحدداتها في علم السياسة والقانون الدولي، بل هي أرخبيل افتراضي متحرك في خرائط مفتوحة على العالم، عابرة للقارات، حيث قبل العولمة مارسوا الكوكبة، بل لعل الكوكبة نفسها امتحاء من نهج المافيا، حيث الدولة في الغرب هي المنافس الموضوعي للمافيا والعكس صحيح.
تقمصت المافيا الكثير من تقنيات الدولة، كما تقمصت الدولة الكثير من تقنيات المافيا، وفي خضم هذه المعركة الحقيقية والاستراتيجية حقاً، حيث إن هناك براري ومحميات لشعوب متحكّم فيها.
لا أحد يمكن أن يقترب من المافيا باعتبارها عصب اللّوبي الإيطالي، الذي يُهيمن على ما هو ملموس، أي العقّار، وما تحته، إنّ الثروة التي توجد في جوف الأرض هي في ملك المافيا التي تدرك بفعل أبويتها وتقليدانيتها أهمية الأرض، وهم في هذا الصنيع تجاوزوا الملّة الأنغلوسكسونية في الولايات المتحدة، للأنغلوساكسون السلطة الظاهرة وللطليان الأرض وما حوت.
قصدت من هذا القول أنّ ما يبدو لنا رؤية جيواستراتيجية، تستند إلى قواعد التفكير الجغرافي التقليدي الذي يستند إلى نهج قياسي فيزيائي بالمعنى الماكرو- فيزيائي وليس بالمعنى الميكرو- فيزيائي لتأثير الجغرافيا على السياسة والعكس، وهنا سأقف عند الاصطلاح الذي وَضَعْتُه حول اللاّشعور الجغرافي، لأبيّن أنّ هناك فعلاً خفيّاً للجغرافيا، تلعب فيه العوامل اللاّمرئية دوراً كبيراً وتبادلياً أيضاً مع السياسة، ففي مثال المافيا هناك سلطة من دون أرض أو شعب، أي لا دولة، غير أنّ المافيا تضع يدها على الأحياز النّافعة، لا تتحمل مسؤولية إدارة الشّأن العام، لكنها تحكم السلطة المرئية نفسها عبر سلطة المال.
بالنسبة لإيف لاكوست، السياسة هي من يحدد الجغرافيا، وهذه خطوة متقدمة في مقاربة إشكالية الجغرافيا- السياسية، لكن من يا ترى يضع قواعد اللعبة السياسية؟ وما هي السلطة التي تلعب المحدد الأسمى للسلطة المرئية؟
أقصد باللاشعور الجغرافي، المساحة الأوسع، لكنها غير الظاهرة، التي تختزن كلّ ما هو مسترجع، كلّ صور القمع الجغرافي والإهانة الجغرافية تختزن الدوافع التقليدية واللاّمفكر فيه الجغرافي، الجغرافيا هنا تشمل الجغرافيا الطبيعية والبشرية، وفي ضوء مفهوم اللاشعور الجغرافي ندرك الأدوار الاستراتيجية التي يمكن أن تلعبها الدول ذات المساحات الكبيرة، والهشاشة التي قد تجلبها المساحات الكبيرة، بهذا المعنى تضمحلّ القياسية في الجغرافيا السياسية، ويَصعُب التّنبُّؤ بغير وسائل الحدس.
كيف أنّ صراعات كبرى يشهدها العالم يَصعُب تفسيرها عبر المؤشرات الواضحة للجغرافيا- السياسية؟.. حتى سنوات قليلة كان هناك تدبير للجغرافيا يأخذ أبعاداً سرّية، فالكشف عن الموارد الطبيعية يمنح مكانة للدول في المنتظم الدولي المُدار بقواعد شكلية، لكنه يفتح في وجهها تحدّي ما يمكن أن نسمّيه أزمة الوفرة بدل أزمة النذرة. في مثل هذا الوضع تتعرّض الدول للابتزاز والتّآمر العميق قصد إدخالها في دورة الهشاشة.
أدركت المافيا منذ زمن مبكر أنّ السلطة المرئية ليست قوةً ولا هدفاً، بل يمكن إحرازها عبر لعبة الانتخاب الطبيعي والسياسي، المافيا تمسك باللاّوعي السياسي والجغرافي. دائماً كانت المافيا تتمتع بصفة: عابر للقارات.. وهي بهذا المعنى تخترق الشقوق التي تحدثها الهزات الجيو- سياسية، لها قدرة على إدارة مصالحها داخل الأزمة، عبر تقنيات تجارة الأزمات. واهتدت الدول الكبرى إلى افتعال أزمات في الأقاليم الأضعف، لأنّ في ذلك سبيلاً لتغيير قواعد السّوق.
ويقدم لنا درس الجغرافيا- السياسية بتقاليده الأكاديمية، التي تعني إعادة تدوير حقائق جامدة بعيداً عن الحسّ النقدي، أقصد وضعنا أمام سلطة الكلمات المفتاحية لبحوث هي بالأحرى تطبيقات جامدة لأفكار رائجة.. وفيها يُصبح رواد هذه الصناعة خبراء الجغرافيا- السياسية، يقرؤون تحوّلاتها وفق قواعد رُسمت مسبقاً، حيث يقدم لنا هذا الدرس رؤية خادعة، في ضوئها تتحدث أغراض الجغرافيا السياسية لمن يملك إدارتها.
ليست جغرافيا العالم ظاهرة للعيان، هناك تحولات عميقة تعتمل بقوة التناقضات والصدع الداخلي للدوافع الكبرى، والسيول العميقة الجارفة. ويفيدنا التحليل النفسي في تحليل الجغرافيا- السياسية، لأنها مرتهنة لاعتمالات لاشعورية قوية. الجغرافيا هي جزء أساسي في البنية العميقة اللاّواعية للإنسان، وهي في الوقت نفسه مجال فعل الإنسان. إن كانت الجغرافيا تصلح للقيام بالحرب بتعبير إيف لاكوست، فإنّ في سياق هذه الحرب تتجلّى معالم صدام اللاّوعي الجغرافي.. فسلطة الخرائط لا تحقق نجاحاً حاسماً في الحروب حين تُواجه بمقاومة تمتحي من اللغة الخاصة التي هي صنيعة الأرض وثقافتها.
إنّ فشل الاستعمار التقليدي هو أفضل مثال على دور اللاّشعور الجغرافي في تحقيق ما يسميه روبرت كابلان بثأر الجغرافيا. يُذكّر هذا الأخير بانهيار الإمبراطورية الرومانية حين وزعت قواتها عبر العالم، معتبراً الحروب البعيدة عن الأرض من شأنها أن تحرم الولايات المتحدة من نعمة العزلة الجغرافية. كان هذا هو همّ هنتنغتون في الدعوة إلى استرجاع الجغرافيا المعزولة وإغلاق الحدود حفاظاً على وحدة الثّقافة ومتانة الهوية، لكن التّاريخ يحتفظ بأمثلة عن فشل السيطرة على الجغرافيا الممتدة. وتبدو السيطرة على الفضاء السيبراني هي التعويض التقني عن ذلك الفشل، كيف نجعل التحكم في الجغرافيا الافتراضية طريقاً للتحكم في الجغرافيا الطبيعية والبشرية والسياسية.
إنّنا باختصار، نجهل فعل الجغرافيا، لأنّ معرفتنا بالخرائط لا تضعنا أمام تعقيد الحقيقة الجغرافية، بل في مجال الجغرافيا- السياسية يصعُب تكوين رؤية عن احتمالات المستقبل إلاّ على سبيل حدس المستقبل. حين توزّعت القوى الاستعمارية العالم، في حركة إمبريالية مشهودة، لم يكن أحد يتوقّع زلزال الحرب العالمية الثانية الذي سهّل انتقام الجغرافية السياسية، وتماماً كالزلزال: ظهرت دول واختفت أخرى، وهذا واضح في إقليم كان وما زال مرتهناً لـ«سايكس بيكو» ومستدركاته.
أعود لأؤكد مرة أخرى، كيف يمكننا إنجاز قراءة جيواستراتيجية في قلب هذا الهدير االسياسي وثأر الجغرافيا؟.. كيف؟ لا سيما حين نعتقد أنّنا في غياب الحدس والاختبار وباعتماد المقاربات السطحية، والجهل بمجريات السياسات ومن دون خواريزميات حقيقية، نستطيع إنجاز استراتيجيا للحاضر والمستقبل؟
كاتب من المغرب