عن القصيدة ما بعد الورق.. لا تزالُ تُشكّل بوابة أشياء العالم بالنسبة للعرب

تشرين- علي الرّاعي:

يكتب الناقد المغربي سعيد يقطين عن تجربة الشاعر العراقي أسعد الجبوري في مشروعه (بريد السماء الافتراضي): للأسف الشديد لم يعد الاهتمام يتصل بالشعراء ولا بالأدباء.. لقد امتلأ الفضاء الأزرق بأخبار أنواعٍ أخرى من الشخصيات لا علاقة لها إلا بالإبداع العابر، والمنتهي في لحظته.. هذا ما صار يشغل الناس، ويملأ الدنيا.. لكن أسعد الجبوري أبى إلا أن يُعيد إلى أذهاننا التي لوثتها ما يسمونه الحداثة، وما بعدها، وما بعد ما بعدها إلى ما لا نهاية، فكرة تجديد الصلة مع الشعراء المبدعين الذين قاوموا الزمن، وستظل أشعارهم درراً، وجواهر لا تقدر بثمن. اختار أسعد صيغة لا تخلو من متعة وإبداع، ومعرفة.. حاور شعراء لم يلتقِ بهم، كما يفعل الصحفي.. اختار طريقةً إبداعية، فيها جدة، وطرافة، ومعرفة.. انتخب مجموعة من الشعراء من الماضي والحاضر، ومن الشرق والغرب، من العرب وغيرهم من الأمم التي قدمت للبشرية شعراء كباراً.. وأبى إلا أن يحاورهم، وهم في عالم غير عالمنا.. إنه يتبنى ما أسميه «الحوار الخيالي» على وزن «رواية الخيال العلمي». هل يا ترى يسير على منوال المعري الذي صدّر به كتابه هذا، وهو يحاور الشعراء في رسالة الغفران؟ ومن سار على هذا النهج قديماً عند العرب وغيرهم؟

تبدأ المحاورة على غرار ما نرى في «الجمهورية»، ولكن الأمر مختلف، فنحن في جمهورية أخرى: «جمهورية مفترضة» يترك فيها أسعد الفضاء فسيحاً، وحراً، للكلام المباح وغير المباح، فإذا هو إبداع يتجلى فيه السرد، وذكاء السؤال والجواب.. ومع كل شاعر سنكتشف مساحات جديدة، تضيق عنها الفضاءات التي تشكلت لدينا عن كلِّ واحد منهم.

إسهامٌ مُبكر

وفي محاولةٍ منه بإسهامٍ مبكر، في وضع تجارب الشعر العربي بسياقٍ أكثر رحابة، أنشأ الشاعر البحراني قاسم حداد بعد منتصف الثمانينيات بقليل موقع «جهة الشعر» على شبكة الإنترنيت، ولاسيما أنه جاء في البدايات الأولى لانتشار مواقع التواصل الاجتماعي في العالم العربي، الأمر الذي عدّه أغلب المثقفين العرب أنه الحدث الثقافي الأهم على مر عقدٍ ونيفٍ من السنين، حتى إن بعض النقاد عدّوه النتاج الأبرز للشاعر البحراني..!

وفي ذات حوارٍ لي مع الشاعر حداد قال لي عن أهدافه من إنشاء هذا الموقع المتخصص بالشعر إنه أراد لـ« جهة الشعر» أن تكون لجميع من يعشق الشعر فضاءً رحباً، يسع النص والشخص، الشعر والنثر، الليل والنهار، العقل والجنون، الماء والتحولات الزرقاء في قرمز القلب..» مؤكداً أن الشعر لا يزال يشكّل بوابة أشياء العالم بالنسبة للعرب، وهو الفضاء الشاسع الفسيح الأرجاء الذي يسع الإنسانية كلها..

بوابة العالم

إذاً.. منذ بداية تعرف «العربي» على التعامل مع وسائل الاتصال التي التصقت بها صفة «الاجتماعية» لتزيد في مساحة التلقي الواسعة من الطبقات المختلفة، ومن الأطياف كلها كان ثمة من وظّف هذه التقنية لخدمة الإبداع الثقافي، وكان «المحظوظ» الأول في النتاج الإبداعي على هذه الصفحات، هو القصيدة.. أي كان على حد وصف الناقد كمال أبو ديب للشاعر حداد بأنه واحد من الذين صنعوا مجداً للشعر العربي، يُضاهي مجد تاريخه العريق، بل إنه ليربو عليه – الكلام لـ«بو دياب»- وذلك من حيث أدخل الشعر العربي في فضاء شعر العالم في لحظة إنتاجه ذاتها، لا بعد قرون من اللأي ومرارة الانتظار..!

إذاً.. كانت كلُّ هذه الآمال، هي التي رآها واحد من أهم النقاد العرب في إنشاء (موقعٍ) ليكون صانعاً لمجد الشعر؟!!.. صحيحٌ إن موقع «جهة الشعر»يبقى إسهاماً مُبكراً وضع الشعر العربي، وتجاربه الحديثة خصوصاً في سياقٍ أكثر رحابة – وربما- أكثر حرية، وبعد موقع «جهة الشعر» انتشرت عشرات المواقع والمدونات وصفحات الفيس بوك، التي تهتم بنشر القصيدة.. لكن السؤال: هل حقاً ساعدت هذه الصفحات الزرقاء في انتشار الشعر العربي؟! وهل زادت من «قراء» القصيدة؟ وهل يتحدث «القراء» اليوم عن قصيدة مهمة قرأها أحدهم، ومن ثم كانت التعليقات الكثيرة التي زادت في عدد قرائها، وهل كانت النتائج على قدر الآمال والأحلام؟!

الأجوبة المخيبة

بعد كلِّ هذه الأسئلة، فإنَّ البحث في الإجابة، تبدو مخيبة.. صحيحٌ أن مواقع ثقافية كهذه، تجعلنا ندرّب أنفسنا على الاكتراث الحقيقي بوسيلة اتصال مختلفة لا تضع سلطة، أو قانوناً أمام حرية الإبداع، غير أن المؤسف، أنّ دائرة القراء بقيت هي ذاتها، بمعنى، أن الفئة التي كانت تتلقى القصيدة عن طريق المجموعة الشعرية الورقية، هي نفسها من يفتح صفحات الشعر، ومواقع نشر الإبداع الأخرى، ومن ثمّ ليس من قارئٍ إضافي للقصيدة، رغم سهولة التناول.. فـ«العربي» منذ دهور لا تعنيه القراءة، وأقصى ما شكلته هذه المواقع أن تكون رديفاً للمجموعة الشعرية ليس أكثر، وإذا ما تحمّس الشاعر، أو المبدع بشكلٍ عام لنشر قصائده على هذا الفضاء الأزرق، أي قبل طباعتها ورقياً، والتي هنا تكاد تكون أقرب إلى «صك ملكية»، فإن جميع الحقوق ساعتها تصير غير محفوظة؟!

لزمن طويل جداً، ولدهورٍ، لم يُفارق الشعر العربي «بدويته» التي في أغلبها كان يُنظم على إيقاع حداء بعير، وعلى أهمية ذلك الشعر باعتباره كان أهم تدوين للعرب، عُرف منه لمدى قرنين قبل الإسلام، وبقي كذلك حتى النصف الأول من القرن العشرين، وخلال ذلك كانت ثمة أقطاب شعرية كانت تنعطف بـ«بيت القصيد» العربي وتأخذ به إلى جماليات جديدة، ابتدأ ذلك من امرئ القيس مروراً بأبي النواس ثم مع أبي تمام والمتنبي وصولاً لأدونيس، وحينها كان «بيت الشعر العربي» قد استنفد كل جمالياته الغنائية.‏

مسير طويل‏

وخلال ذلك المسير الطويل، عرفت القصيدة العربية، الكثير من الحوامل، حيث كانت المنابر وساحات القبيلة في مرحلتها الشفوية والشفاهية، حتى تمت كتابتها، وعلى ما يُروى أنه تمّ بماء الذهب، وتمّ تعليق عشر من أهم ما قيل في الشعر العربي على جدران الكعبة في الجزيرة العربية.. وإن كانت الأحفورات الأثرية كشفت لنا عن شعرٍ سوريٍّ عظيم لسوريين فينيقيين سبقوا الشعراء العرب بآلاف السنين دونوا شعرهم نقشاً على رقم طينية وفخارية في الزمن القديم، ولاسيما في سورية زمن عصرها الهلنستي وفي مسيرة حوامل القصيدة، كانت أيضاً كُتبت على الصخور، والجلود،.. حتى احتضنها الورق في كتاب.‏

ومن يومها أخذت القصيدة العربية شكلاً جديداً ومضامين جديدة تُناسب الحوامل الجديدة للنشر الإلكتروني، وذلك بأن اتجهت صوب التخلص من الكثير من التفاصيل، ولتقول «بيت القصيد» دفعة واحدة مكثفاً من كلِّ تطويل وشرود، وهنا نتحدث عن شعراء حقيقيين، وليس كلَّ شخصٍ امتلك صفحة على الفيسبوك وأراد أن يُعبّر – وله الحق بالتأكيد – عما يجول بدواخله، وعلى هذا المدى الأزرق عُرف عشرات من مواقع نشر القصيدة، وحتى نقدها، ونقد ما يُطبع من نشر ورقي، بدءاً من مواقع الجرائد الورقية نفسها التي صارت لها مواقعها الإلكترونية أيضاً، وحتى تلك المواقع المتخصصة بنشر القصيدة الصرف.‏

 

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار