ملف «تشرين».. منظومة التعليم ملأى بالخطط والاستراتيجيات وخالية من دسم فكر الريادة.. وبيئة العمل بلا مقومات لجذب خريجي التعليم المهني
تشرين- باسم المحمد:
من ينظر إلى حال سوق العمل في القطاعين العام والخاص، يستنتج مباشرة وبلا أدنى حاجة للتفكير بأننا اليوم ندفع ثمن ما تراكم منذ عقود، في آليات إعداد جيل الشباب وتعليمهم وتدريبهم، إذ تركزت الجهود على تأمين خريجي الاختصاصات العلمية الدقيقة من أطباء ومهندسين، والاختصاصات الإدارية القيادية كالمحامين وخريجي كليات الاقتصاد، إضافة إلى المعلمين، وتراكم الخريجين وباتوا مشكلة على الاقتصاد والمجتمع، لأنهم بعد عقود يضيعونها في العملية التعليمية يجدون أنفسهم عاطلين عن العمل، لا قدرة لهم على ممارسة أي مهنة تؤمن لهم معيشتهم خارج ما تعلموه في جامعاتهم، أو أرقاماً في البطالة المقنعة…
الأيدي العاملة الخبيرة أصبحت عملة نادرة من جراء ما اقترفت أيدينا
واليوم الجميع يشتكي عدم توافر الكوادر وتسربها داخلياً وخارجياً بلا أي رافد من الجيل الجديد، ما أوقع القطاع العام في مشكلة تشغيل القطاعات الاستراتيجية الإنتاجية، وكذلك القطاع الخاص الذي يعاني أصحابه من قلة الأيدي العاملة الخبيرة، التي أصبحت عملة نادرة، كحصيلة لما اقترفت أيدي الجميع بعدم زرع فكرة ريادة الأعمال، وتنميتها وتأمين جميع مقوماتها، لتكون أساس أي نهضة أو دوران لعجلة إنتاج ستنتشل اقتصادنا من كبوته، وتحقق الرفاهية لمجتمعنا..
استراتيجية وطنية
لعل غياب التنسيق بين الجهات الوصائية وعدم تنفيذه لاستراتيجيات حكومية تم إقرارها في استقطاب جيل الشباب إلى التعليم المهني، من أهم الأسباب المؤدية إلى عدم نجاعتها، فحسب التصريحات والأرقام الرسمية تتابع الحكومة باهتمام قطاع المشروعات الصغيرة والمتوسطة وتحرص على التوسع فيها كمّاً ونوعاً ونشرها على مستوى كامل الجغرافيا الوطنية، ففي نهاية العام الماضي بلغ العدد الإجمالي للمشروعات ما يقارب /778/ ألف مشروع، يتجاوز عدد المشروعات العاملة منها /460/ ألفاً، وتم توجيه المصارف العاملة لمنح الأولوية في منح التسهيلات الائتمانية لقطاع المشروعات الصغيرة والمتوسطة وخاصة الإنتاجية، حيث بلغت القروض والسلف الممنوحة عبر مصارف التمويل الأصغر خلال عام 2022 /13.3/ مليار ليرة، بالإضافة لتنفيذ مجموعة من البرامج التدريبية لنشر ثقافة المشروعات الصغيرة والمتوسطة منها: برنامج التدريب من أجل التشغيل المضمون- برنامج طالبي العمل- برنامج ريادة الأعمال- برنامج تعزيز قدرات المرأة- برنامج حاضنات الأعمال، وبلغ عدد المستفيدين من هذه البرامج /5158/ مستفيداً.
مفهوم الريادة
الخبير الإداري الدكتور إياس الحمدان يرى أن منظومتنا التعليمية تفتقد إلى مفهوم ريادة الأعمال الذي تم الحديث عنه خلال العقدين الماضيين بسبب التغيرات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية الدولية، وهو عملية يمكن أن يقوم بها شخص أو ربما عدة أشخاص، قد لا يمتلكون ما يكفي من الموارد، لكن لديهم فكرة يمكن تحويلها إلى عمل تجاري بمعنى تحويل الأقوال إلى أفعال.
وعندما نقول فكرة ليس من الضروري أن تكون جديدة لمنتج أو خدمة معينة، فقد تكون تقديمَ حلٍّ لمنتج أو خدمة موجودة في السوق، أو إكمالاً لها، وتالياً سد فجوة ما يكتشفها رائد الأعمال، ومما لا شك فيه أن جميعنا لديه أفكار، لكن تحويلها إلى عمل أو مهنة أو خدمة مرغوبة في السوق هو ما يحقق ريادة الأعمال.
نعاني من غياب مشروع وطني استراتيجي لاستثمار جيل الشباب
وبرأي الحمدان فإن رائد الأعمال يجب أن تتوافر فيه بعض الصفات كأن يمتلك الشغف، والاستعداد لتحمل المخاطر، وأن يكون لديه روح الإبداع والابتكار لوضع أفكاره في السوق، كما يجب أن يمتلك رؤية مستقبلية لفكرته على أنها بالنهاية حاجة لسد فجوة موجودة على أرض الواقع.
وحسب الحمدان فإن رائد الأعمال يجب أن يمتلك عامل المرونة أكثر من الشركات التي تكون لديها أفكار معينة ونظام داخلي محدد ومستثمرون يعملون وفق أيديولوجيا معينة، قد تمنعهم من اعتماد التغيير ربما خوفاً من التكاليف، ويقتصر تفكيرهم على تطوير منتجاتهم أو البحث عن أسواق لتصريفها، أما رائد الأعمال فيكتشف ثغرة ما في شركة أو منتج ويضيف بعض التحسينات أو التغييرات لسد النقص في السوق، وربما يلاقي رواجاً كبيراً.
اقتناص الفرصة
تؤدي التغيرات المتسارعة التي يشهدها العالم في مختلف مجالات الحياة إلى حصول تغيرات في عادات المستهلكين وسلوكهم الشرائي والخدمي والاستهلاكي، ما ينجم عنه – حسب الحمدان- ثغرات في السوق تخلق فرصاً لرواد الأعمال، الذين يقتنصون الفكرة لما يتصفون به من جرأة وخبرة وإبداع ويحولونها إلى مشروع ناجح .
حل للأزمات
وفي رأي الحمدان فإن أهمية ريادة الأعمال تبرز في الدول التي تعاني مشكلات واختناقات، لأنها تطور خدمات من لا شيء برأسمال متواضع قد يقتصر على وسيلة اتصال، وربما تجذب الفكرة الجديدة الشركات الكبرى لتتسابق على شرائها أو الاستحواذ عليها.
منظومتنا التعليمية تفتقد إلى مفهوم ريادة الأعمال
لذلك يمكن القول: إن الريادة تؤمن فرص عمل لخريجي الجامعات والمعاهد، وللشباب الذين تعصف الأزمات الاقتصادية ببلدانهم، كما أنها تنشر روح الإبداع والابتكار في المجتمع، فوجود رائد أعمال في منطقة أو دولة ما سيولِّد المنافسة ما ينشر الإبداع والابتكار، وهذا ما يحقق اقتصاداً صحياً يقدم سلعاً وخدمات فريدة من نوعها، وهذا ما يريده المستهلك بالنهاية، ما يخفض الأسعار للسلع والخدمات بسبب المنافسة وزيادة العرض، فتزيد الرفاهية المجتمعية، ويتحسن استغلال الموارد المتاحة على مستوى الأفراد والشركات والمجتمع والدولة، وهو أمر يطمح إليه الجميع.
احتضان الرواد
وبناء على كل ما سبق ذكره، طالب الحمدان الجهات الحكومية باحتضان رواد الأعمال بهدف تشجيع الشباب وتحفيزهم على العمل، وذلك من خلال حاضنات للأعمال تساعدهم في إنشاء المشروعات الصغيرة والمتناهية الصغر، عن طريق تأمين التمويل بتسهيلات كبيرة، وتزويدهم بأبحاث وإحصاءات ودراسات، وإقامة دورات تدريبية ليس لتقديم المعرفة بل لتعزيز المهارات، فاقتصادنا الآن بحاجة إلى المهارات وليس المعرفة فقط، ولدينا حالياً معارف كثيرة وخريجون في مجالات وقطاعات متنوعة لكن ما نحتاجه تعزيز وتنمية مهاراتهم، ويمكن توفير بعض مستلزماتهم بأسعار تشجيعية، ويمكن تقديم الوعود بتبني الأفكار والمشروعات الناجحة كما تفعل العديد من الدول.
أخيراً
نظمت الكثير من المؤتمرات الحكومية والخاصة وأعلن في أكثر من مناسبة عن إنشاء مرصد لسوق العمل، لربط احتياجات سوق العمل بالموارد البشرية المتاحة، وعن توقيع اتفاقيات بين الجهات الخاصة وجامعاتنا ومعاهدنا بهدف الأخذ بيد الخريجين، وتحقيق الاستثمار الأمثل لكوادرنا البشرية، لكن كل هذه “الهمرجات” كانت تنتهي قبل تنظيف القاعات التي تعقد فيها الجلسات وتوقع فيها الاتفاقيات، والحصيلة لا شيء يمكن اعتباره مشروعاً وطنياً لتوظيف الشباب خدمة لاقتصادنا، فما زالت عقبات كثيرة دون تنمية فكر ريادة الأعمال، بدءاً من التراخيص الإدارية، وما يتخللها من روتين وفساد، وغياب المحفزات الضريبية التي قد تجذب بعض المترددين، إضافة إلى غياب الجهاز المصرفي عن دوره الوطني في هذا الإطار، وابتعاده عما يطلق عليه مصرفياً بمخاطر تمويل المشروعات الصغيرة والأفكار الريادية، ورغبته في تحقيق الأرباح والمضمونة منها فقط، مع ذر الرماد في عيون المطالبين، بإطلاق بعض المنتجات المصرفية الموجهة إلى أصحاب المشروعات الصغيرة والمتوسطة، لكن عندما يتجه إليها المستهدفون يكتشفون بأن تكاليفها أعلى من القروض العادية، كما أن العبء الضريبي ترك على حاله لا يراعي الجانب التنموي رغم غزارة التصريحات، فبقيت التكليفات الضريبية من العوامل المنفرة، التي لا تناسب رواد أعمال في بداية دربهم المحفوف بالمخاطر والمملوء بالتكاليف الطارئة.
اقرأ أيضاً: