بدائل زراعية ملحّة بانتظار التوطين تحت عنوان ” نكون أولا نكون”.. متغيرات “قاهرة” تفرض استراتيجيات استدراكية لم نطرقها بعد
تشرين – رشا عيسى:
بين محدودية الموارد المائية وانخفاض كميات المياه اللازمة للزراعة تبدو الحاجة ماسة لاستنباط أصناف محصولية ذات متطلبات مائية أقل من دون الاستغناء عن المحاصيل الاستراتيجية التي يعني التوقف عن زراعتها إحداث خلل إضافي في الأمن الغذائي .
ويمكن أن تكون تكلفة بعض المحاصيل الصناعية المستوردة أكثر انخفاضاً بالمقارنة بتكلفة المنتج محلياً، وهذه التكلفة الأقل يمكن أن تؤثر على المدى القريب، لكن المكاسب المتحققة منها على المدى البعيد تبدو أقل أهمية بالمقارنة بالحصول على منتج وطني مستقر بامتيازات زراعية وتصنيعية وتسويقية كما يوضح الخبراء، في حين يتجه بعض المزارعين والعاملين في القطاع الزراعي لاستبدال محاصيلهم بأخرى تحقق ريعية أكثر لهم في ظل ارتفاع أسعار المتطلبات الزراعية والحياتية عموماً.
توطين المنتج المحلي يحقق الاستقرار البعيد الأمد بامتيازات زراعية وتصنيعية وتسويقية
ويبدو الاتجاه نحو الزراعات الاستوائية في المنطقة الساحلية واضحاً بشدة وحتى ضمن البيوت المحمية، وبات استثماراً ناجحاً مع استبدال الحمضيات وبعض الخضراوات المحمية بزراعة (الأفوكادو) على سبيل المثال الذي يبدو الإقبال على زراعته عالياً لحاجة الأسواق الكبيرة له بشقيه الغذائي والتصنيعي (الدوائي والتجميلي)، كما يشرح مزارعون لـ«تشرين» خاضوا هذه التجربة.
استنزاف الموارد المائية
الباحث الزراعي الدكتور مجد درويش أكد لـ«تشرين» أنه في ظل ازدياد الطلب على المياه واستعمالاتها، والاستنزاف الكبير الناجم عن الاستثمار في الزراعة والتوسع في رقعة الأراضي المزروعة ومحدودية مواردنا المائية، لاسيما في ظل التغيرات المناخية الأخيرة وتكرار سنوات الجفاف، كل ذلك أدى إلى انخفاض كميات المياه المتاحة، وظهور عجز مائي سنوي يهدد أمننا المائي الذي لا يقل أهمية عن أمننا الغذائي المستدام.
وبالاستناد إلى أن زراعاتنا الصيفية ذات أهمية تصنيعية مثل (الشوندر السكري، القطن، التبغ، الذرة الصفراء وعبّاد الشمس وغيرها…) وحتى محاصيل الخضار جميعها تعتمد وبشكل كامل على الري، وتختلف في احتياجاتها المائية، إلا أنها في الغالب ذات مقنن مائي مرتفع.
وأوضح درويش أن ما نعانيه من ندرة في الموارد المائية، لاسيما خلال فترات احتباس الأمطار وفي فصل الصيف، دفع إلى البحث عن بدائل لهذه المحاصيل يمكن أن تفي بالغرض وتكون أقل استهلاكاً للمياه وتتمتع بإنتاجية وفيرة وذات خصائص نوعية – تصنيعية جيدة كما تحقق ريعية مقبولة لدى المنتجين الزراعيين، وهذا يقودنا للإشارة إلى أهمية البحث العلمي الزراعي في هذا المجال، عبر العمل على استنباط أصناف محصولية ذات متطلبات مائية أقل ويمكنها أن تتحمل الجفاف.
وبيّن أن المقنن المائي لهذه المحاصيل الصيفية لا يمكن مقارنته بمحاصيل مزروعة شتاء، أو حتى في عروات خريفية: ومنها محاصيل شتوية كالقمح والشعير والبقوليات وغيرها، إلا أنه من وجهة النظر الزراعية والتكنولوجية لا يمكن لمحصول أن يحل محل الآخر في دورة الإنتاج الزراعي أو من حيث الأهمية الغذائية – التصنيعية لكل منهما.
وشرح أنه لا يمكن لزراعة الشعير ( كمحصول علفي) رغم متطلباته المائية الأقل، أن تحل مكان زراعة الذرة الصفراء ذات الاحتياجات المائية الأعلى، على اعتبارها الأساس في تغذية الدواجن والأبقار, كما أنه لا يوجد بديل حالي عن القطن كمحصول ألياف أو الشوندر السكري كمحصول لتصنيع السكر أو التبغ وغيره.
مكاسب بعيدة الأمد
ولفت إلى أن الجواب عن السؤال المطروح هل استيراد المحاصيل الصناعية ومنتجاتها أكثر جدوى اقتصادية من الإنتاج المحلي، هو أنه لو أجرينا مقارنة نسبية بين ما تطلبه العملية الإنتاجية لهذه المحاصيل، سواء الصناعية أم حتى محاصيل الخضار، فإنه يمكن أن تكون تكلفة المستورد أكثر انخفاضاً في القريب العاجل بالمقارنة بتكلفة المنتج المحلي، إلا أنه في المدى البعيد تكون المكاسب المتحققة من الحصول على إنتاج وطني مستقر بامتيازات زراعية وتصنيعية وتسويقية كبيرة جداً وتساهم في تحقيق تنمية اجتماعية مستدامة، كما أن ذلك عامل استقرار أساسي لأمننا الغذائي وقرارنا السيادي.
الإدارات الزراعية
تبرز هنا أهمية عملية إدارة وتنظيم الإنتاج الزراعي بحيث يتم رسم خطط زراعية سنوية للمحاصيل الاستراتيجية ولمحاصيل الخضار الموسمية بشكل يتوافق والمساحات الزراعية ومواردنا المائية المتاحة، وضرورة أن تتكيف هذه الخطط والظروف المناخية المحيطة مع إمكانات الإنتاج المتوفرة وفقاً لدرويش.
ولابد من التنويه هنا لأهمية التوجه إلى إنشاء إدارات زراعية متكاملة للمحاصيل الزراعية، والتنسيق بين هذه الإدارات في رسم الخطط الزراعية وتنفيذها.
التقانات الحديثة
ولتخفيف وطأة محدودية المياه ينبغي التوجه لتطبيق تقانات الري الحديثة واستخدام الطاقات المتجددة في هذا السياق، وبالنظر لأهمية ذلك ودوره في صيانة وحفظ أمننا المائي فقد أقرت الحكومة منذ فترة لا بأس بها من الزمن، الخطة الوطنية لترشيد استخدام الموارد المائية للحد من استنزاف الموارد المتاحة وذلك لمواجهة التدهور الكمي وخاصة فيما يتعلق بالمياه الجوفية، كما تم تأسيس مديرية المشروع الوطني للتحول إلى الري الحديث، مع تقديم التسهيلات المالية لتنفيذ مشروعات الري عبر إحداث الصندوق الوطني لتمويل المشروع الوطني للري الحديث وبمنح قروض ميسرة طويلة الأجل تساعد المنتجين الزراعيين في تأمين الاحتياجات المائية لمحاصيلهم ما يؤدي إلى استقرار نسبي في عجلة العملية الإنتاجية الزراعية، وعليه فإن تبني الري الحديث محلياً وتأمين مستلزماته يمكن أن يشكلا حلاً ملموساً لعملية التنمية الزراعية التي من شأنها أن تحقق زيادة في الإنتاج الزراعي بإضافة كميات أقل من المياه مقارنة بطرق الري التقليدي.
محدودية الموارد المائية تفرض استنباط أصناف محصولية ذات متطلبات مائية أقل من دون المساس بالمحاصيل الاستراتيجية
وأكد درويش أنه لا بديل عن الزراعات الاستراتيجية، داعماً فكرته بأن القضية ليست فقط توفير مياه أو استنزاف خصوبة أو حتى ريعية مالية للمزارع، بل إذا تم التخلي عنها ما البديل لها، وإذا تم إدخال محاصيل ثانية فما الجدوى منها، متسائلاً: ما البديل عن الصويا مثلاً أو عن كسبة الصويا للعلف رغم استخدام كسبة القطن أو تفل الشوندر الذي لا يتمتع بالقيمة العلفية نفسها.
بدائل أخرى
المهندس الزراعي علاء أحمد رأى أن مسؤولية شح المياه اللازمة للحمضيات ولزراعة الخضار مع غياب التصنيع وانحسار التصدير وقلة المردود المادي للمزارع كانت السبب وراء الاتجاه نحو بدائل أخرى تحقق ريعية أفضل للمزارع وربحاً أكثر.
وأوضح أن زراعة النباتات الاستوائية بدأت تنتشر بكثرة وحتى أصبحت أحد البدائل المتاحة عن الحمضيات في المنطقة الساحلية، كما أصبحت أكثر تفضيلاً حتى داخل البيوت البلاستيكية.
وأكد أن النباتات الاستوائية بحاجة أيضاً للمياه، لكن أغلبية المزارعين يتجهون لبدائل لتأمين المياه حيث تحقق مردوداً مادياً مهماً إذ يصل كيلو الأفوكادو مثلاً إلى 75 ألف ليرة في الأسواق المحلية.
ويرى أحمد وهو يقوم بزراعة الأفوكادو أن لهذه النباتات ميزة ثنائية لأن الغرض منها ليس غذائياً فقط بل هو دوائي وتجميلي بحيث يدخل في الصناعات التجميلية لأغراض علاجية، ويدخل أيضاً في الصناعات التحويلية والمنظفات والصابون والأدوية ما زاد الطلب عليها في الأسواق المحلية والعالمية.
ويؤكد أن الاتجاه الغذائي نحو الأفوكادو لا يتجاوز 7% من الإنتاج العام له رغم قيمته الغذائية العالية من الدهون والبروتين، حيث القسم الأكبر من الإنتاج يتجه نحو القطاع الصناعي.
استثمارات جديدة
المزارع بسام يروي تجربته لـ«تشرين» حول زراعاته الجديدة ويقول إنه تخلى تماماً عن زراعة البندورة في البيوت البلاستيكية واتجه لزراعة المانغو والقشطة، ورأى أنها تحتاج إلى جهد أقل، ولا تتطلب مشقة السهر ليلاً في أوقات الصقيع وعند انخفاض درجات الحرارة، كذلك لا تحتاج إلى المحروقات لإبقائها دافئة.
وبدأ بسام يحقق أرباحاً يراها مهمة لاستكمال زراعته من جهة ولتغطية احتياجات أسرته من جهة أخرى.
ولم يعد يستهويه الاهتمام بأشجار الحمضيات التي ورثها عن والده، بينما أخوه يواصل الاهتمام ببستان الحمضيات.
ورأى أن الخسائر السنوية وغياب التصنيع كانا السبب الرئيسي للعزوف عن هذه الزراعات حيث الجهد كبير والمردود المادي قليل جداً.
وتحتاج أشجار الأفوكادو لتبدأ بالإنتاج لما يقارب أربع سنوات، وهناك الكثير من الأصناف بعضها يعطي إنتاجا مبكراً وأخرى تعطي إنتاجاً متأخراً.
ويبدأ الإنتاج من شهر آب من كل عام ويمتد إلى شهر حزيران من العام الذي يليه .
وتستهلك زراعة الأفوكادو كمية كبيرة من المياه، أي تحتاج إلى كمية تفوق أربع مرات الكمية اللازمة لإنتاج الحمضيات أو كيلوغرام من البندورة، ما يعني أن الأزمة الأساسية بقيت نفسها ماثلة وهي استهلاك المياه حيث تحتاج الزراعات الاستوائية إلى وفرة المياه لتصل لمرحلة الإثمار، كما يقول بسام، لكن الطلب المرتفع عليه في السوق المحلية والتصدير جعل منه خياراً مربحاً للزراعة.