الموظف “المثمر” يُرمى بالحجارة.. ومن يعمل بإخلاص بات محطاً للتنمر.. والوظيفة العامة بعد أن كانت حلماً أصبحت كابوساً ..!
تشرين- نور ملحم:
بعد أن كانت الوظيفة العامة حلماً لنسبة كبيرة من المواطنين قبل الحرب على سورية، ينتظرون الإعلان عن مسابقات التوظيف ويبذلون أقصى الجهود للظفر بها، باتت اليوم تشكل عبئاً على نسبة كبيرة منهم بسبب انخفاض القوة الشرائية للدخل بفعل عوامل التضخم وعدم تناسب الراتب الشهري مع متطلبات الحياة اليومية للموظف نفسه بغض النظر عن متطلبات عائلته.
لم تتمكن (سناء) مهندسة مدنية في القطاع العام، من الحصول على موافقة على استقالتها رغم تقديمها مرتين خلال الشهر الماضي.
اتحاد العمال يؤكد ارتفاع أعداد المستقيلين من القطاع العام خلال النصف الأول من العام الجاري
تمضي الثلاثينية 8 ساعات يومياً في العمل الذي تعده بلا فائدة بحكم جلوسها خلف الطاولة واللعب على الكمبيوتر” لعبة الشدة” لأن المكان الذي عينت فيه منذ 5 أعوام لا يمت للهندسة المدنية بأي صلة .
تقول لـ” تشرين”: لم يعد بإمكاني تجاهل وضعي في العمل، كل تلك الساعات تمر بلا فائدة، فالكسل يسيطر علي، فعملي في القطاع الخاص أفضل بكثير، مقابل المردود المادي الرمزي الذي أتقاضاه من وظيفة الدولة، وعلى الرغم من تقديمي تقارير طبية تبين خطورة وضعي الصحي، فإنّ طلب الاستقالة يعود دائماً مع الرفض.
استقالات بالجملة
على غرار (سناء) آلاف الشابات والشباب الذين تقدموا لوظائف القطاع العام ونجحوا فيها وتم تعيينهم في أماكن لا تناسب دراستهم أو خبراتهم، يقول (مجد) 37 عاماً خريج الآداب قسم الفلسفة: تم تعييني بعد التسريح وفي البداية تشجعت بحكم أن وظيفة القطاع العام ذات ضمان أكثر من القطاع الخاص، لكن للأسف بات الراتب لا يكفي لمدة 3 أيام، فأنا أنفق شهرياً من 50 إلى 100 ألف ليرة زيادة على راتبي حتى أستمر في الدوام، إذ إن مبلغ 115 ألفاً الذي أقبضه راتباً شهرياً أضع فوقه 50 ألفاً أخرى لأدفع أجرة المواصلات، فضلاً عن مصاريف المأكل والمشرب التي أضطر لها في بعض الأحيان أثناء الدوام.
ويكمل الشاب، وهو يضحك بسخرية: الشيء الوحيد الذي نستفيد منه هو وجود الكهرباء وبذلك نستطيع شحن موبايل والبطارية الصغيرة في الوقت الذي لا توجد فيه كهرباء في منازلنا.
فرصة للهروب من المنزل
على عكس سناء ومجد هناك فئة من الموظفين في القطاع العام همهم الوحيد الاستيقاظ باكراً والتوجه نحو العمل، تقول (منى) موظفة في ديوان إحدى الوزارات لـ”تشرين”: الدوام فرصة للهروب من المنزل والأطفال والتسلية مع الأصدقاء وسماع آخر الأخبار ” هي تزوجت وهي طلقت وهي زوجها عشق عليها وهاد بشتغل ليل نهار وعلى الفاضي ..الخ”.
لا تعتمد الأربعينية على راتبها كمصروف للعائلة فهي عبارة عن مول متنقل ما بين الأقسام تبيع ما توفر لديها من ملابس للعاملين وفق نظام التقسيط تضحك وهي تخبرنا بلهجتها الرقيقة:” بدنا نعيش شو آخدين معنا خلينا نشتغل ونتسلى “.
وبذكائها الحسابي تقول: لو فرضنا أنني أرغب بتقديم استقالتي والتفرغ للعمل في التجارة فإنّ الأمر سيكلف كثيراً من المصاريف ما بين إيجار محل وضرائب وكهرباء ومياه..، لذلك أطبق هنا المثل الذي يقول:” اضرب عصفورين بحجر… منأخد راتب ومنبيع أغراض وكلو ببلاش”! .
قبل الحرب الظالمة كانت الوظيفة الحكومية حلماً لمعظم السوريين بما تقدمه من راتب ثابت، لكنها تحوّلت اليوم إلى كابوس مع الرواتب الضعيفة التي تمنح، إضافة للصعوبة من الخروج منها إلّا بموافقات ووساطات.
تقرير اتحاد العمال
شهدت الشهور القليلة الماضية ازدياداً كبيراً في أعداد الموظفين الراغبين في الاستقالة، تزامناً مع تفاقم الأزمة الاقتصادية والمعيشية التي أثرت في الجميع، نتيجة ارتفاع الأسعار والتضخم غير المسبوق، وحسب التقرير الصادر عن اتحاد العمال ارتفعت أعداد المستقيلين ومقدمي طلبات الاستقالة من القطاع العام خلال النصف الأول من العام الجاري، مسجلاً استقالة 400 موظف في محافظة السويداء، و300 آخرين في محافظة القنيطرة أغلبهم من قطاع التربية.
تيشوري: الأزمة الوظيفية اليوم هي أزمة إدارة وأخلاق
في حين تم تقديم 516 طلب استقالة في محافظة اللاذقية، بينها 230 طلباً من عمال في شركات الغزل، و149 من عمال في مؤسسة التبغ، و58 من عمال في قطاع الزراعة، و31 من عاملين في مديرية الصحة، و48 طلباً من موظفين في مختلف القطاعات الأخرى.
50 بالمئة هاجروا
الخبير بالإدارة العامة عبد الرحمن تيشوري يؤكد أن القطاع العام وصل للإفلاس الإداري نتيجة ضعف الأجور والفساد، فخلال الأزمة بدا هناك عجز كبير بالأداء المؤسسي وظهرت مشكلات الفساد المالي والإداري والتسيب وعدم حماية وحراسة المؤسسات وتكشف الرقابة عن اختلاس 10 ملايين يومياً، لافتاً في تصريح لـ” تشرين” إلى أن 50% من الشباب الذين لديهم خبرة واسعة هاجروا ومن المتوقع أن تزيد هذه النسبة في حال بقينا على حالنا وعدم وجود أي ردة فعل لإنقاذ من تبقى من شباب، فاليوم نلاحظ تزايد طلبات الاستقالة نتيجة عدم تناسب كتلة الرواتب مع التضخم الاقتصادي، بحيث لا تغطي حتى تكلفة النقل، ما يجعل الموظف يعمل بشكل شبه مجاني، ومن جانب آخر يسهم تهالك القطاع العام فيما يخص عمليات الترقية الوظيفية والتطوير في تحفيز قسم كبير من الموظفين على ترك العمل الحكومي، حيث تمنح الحوافز والترقيات لموظفين محددين، مبيناً أن الجزء الكبير من مشكلات القطاع العام السوري يعود الى المسألة الإدارية، فالأزمة الوظيفية في سورية هي أزمة إدارة وأخلاق، لذا نؤكد على معالجة كل ما هو مرتبط بذلك لإصلاح قطاعنا العام، ولاسيما ضمن استفحال البيروقراطية ودفع الإتاوات وبيع فرص العمل وبازارات المناصب وتضليل الإنجازات وتضخيم الوهمي.
إجراءات حكومية
وأكد أن الإجراءات الأخيرة التي اتخذتها الحكومة للحدّ من الاستقالات الجماعية تعكس الرغبة في المحافظة على المؤسسات الحكومية بالحد الأدنى، لذلك فهي غير كافية بالنسبة للموظفين الذين يمتلكون خبرات جيدة، ما يجعل توظيف موظفين غير كفوءين البديل المتاح بغضّ النظر عن جودة الخدمة، إضافة لمنح رواتب ومكافآت للإدارات العليا لحثها على تنظيم الفوضى التي يعانيها القطاع العام.
وأضاف تيشوري: البعض يقول إنّ مشكلات العام لم تأتِ من كونه قطاعاً عاماً بل تعود إلى بنية التنظيم الاجتماعي السوري نفسه وإلى نسق العلاقات الاجتماعية السائدة بين بعضها من جهة وبينها وبين مؤسسات الدولة من جهة أخرى، لكن الحقيقة يوجد العديد من الأسباب التي أثرت في القطاع العام والعاملين فيه، منها أسباب قانونية وضعف وغياب الرقابة ومشكلات التمويل والإدارة غير المهنية وغير المؤهلة والمحمية، لذا نؤكد من جديد على أهمية معالجة المشكلات كاملة كمنظومة، فالقطاع العام كبير جداً وفيه حجم استثمارات كبيرة موظفة فيه وله مهمة اجتماعية كبيرة تتلخص في توفير الحاجات الأساسية للسوريين التي تنامت وكبرت وخاصة السكن والعمل والكهرباء والغاز والغذاء والدواء والتعليم والصحة.
الأبرش: الإجراءات المتبعة لدراسة طلبات الاستقالة بطيئة جداً
ويختم تيشوري حديثه، الشخصانية في العمل الحكومية أصبحت مملة وسقيمة وغير قابلة للتغيير، فهي ذاتها القوالب القديمة ولا يمكن اختراقها، فالكثير من المديرين يعلمون أن 50% من العاملين والمنتظمين بالدوام ليس همهم بالعمل الحقيقي بل اختاروا وظيفة القطاع العام للتسلية، حيث تجد شخصاً واحداً يعمل في القسم من أصل 10 أشخاص ورغم أنه يعمل بإخلاص ولكن الجميع يتنمر عليه ويسمعه كلمات تزعزع حبه للعمل، حيث بات العمل في القطاع العام كالعيش مع أعدائك، الجميع يطمح ليكسب دخلاً إضافياً، ولا أحد يحاول أن يكون منطقياً للحظة، لا أحد يسعى إلى حلّ، لدينا الخبرات ولكن الشخصانية تبقى في المرتبة الأولى.
القانون السوري يعاقب …
ظاهرة ازدياد طلبات الاستقالة ترافقت مع هجرة عشرات الآلاف من الموظفين قبل 5 و6 أعوام، والإجراءات المتبعة لدراسة هذه الطلبات بطيئة جداً وتحتاج إلى كثير من التبريرات من الموظف والموافقات من الجهات الحكومية، حسب ما أشار المحامي محسن الأبرش المختص بقضايا شؤون العاملين .
ويضيف الأبرش في تصريح لـ” تشرين”: تأتي هذه الزيادة في طلبات الاستقالة تزامناً مع سفر معظمهم للعمل في الخارج رغبة في الخلاص من الواقع المعيشي والاقتصادي الصعب المتمثل في غلاء المحروقات وشحّها، والارتفاع المتسارع في أسعار المواد الغذائية والاستهلاكية، وأزمة المواصلات الخانقة، وانقطاع الكهرباء الذي يصل إلى 15 ساعة يومياً في أغلب المناطق، مبيناً أنه بموجب المادة 364 يعاقب القانون السوري من ثلاث سنوات إلى خمس سنوات وبغرامة لا تقل عن الراتب الشهري مع التعويضات لمدة سنة كاملة كل من ترك عمله أو انقطع من العاملين في الوزارات أو الإدارات أو المؤسسات أو الهيئات العامة أو البلديات أو المؤسسات البلدية، أو أي جهة من جهات القطاع العام أو المشترك قبل صدور الصك القاضي بقبول استقالته من المرجع المختص، وكذلك كل من عدّ من هؤلاء بحكم المستقيل لتركه العمل أو انقطاعه عنه مدة خمسة عشر يوماً .