حرب البذور
تشرين- د. عماد خالد الحطبة:
بالنسبة للكثيرين في بلدان العالم الثالث لا يعدو هذا المصطلح كونه لغواً أو فذلكة سياسية، فالشعوب تعيش حروباً حقيقية تُزهق فيها أرواح ويهلك الضرع والزرع. بالنسبة لهم حرب البذور لا تختلف كثيراً عن أزمة العملات الرقمية وكلتاهما لا تعنيان المواطن المطحون بأزمات الحياة اليومية.
لكن الحقيقة تخالف كل ما سبق، إذ يدرك السياسيون والخبراء الاقتصاديون أن هذه الحرب أصبحت واقعاً لا بدّ من التعامل معه لأنه ينعكس على قضايا السيادة الوطنية المتعلقة بالظروف الاقتصادية، رغم أن هذه الحرب ليست جديدة، إذ بدأت فعلاً بعد الحرب العالمية الثانية، وقد تنبهت لها العديد من الدول ومنها مصر وسورية والعراق، لكنها حرب كانت تخاض في الظل مع تقارير متفرقة هنا وهناك تحذر من خطورتها مثل التقرير الذي أصدرته الخبيرة الزراعية الهندية فاندانا شيفا في مطلع هذه الألفية وأشارت فيه إلى أن أكثر من مليار إنسان يعانون من «عبودية البذور» فقد أصبح المزارعون عبيداً للشركات المنتجة للبذور الزراعية، وأن أكثر من 200 فلاح هندي انتحروا خلال 10 سنوات بسب تراكم الديون الناجم عن فشل زراعة القطن بالبذور المعقمة والمعدلة جينياً، لكن هذه الحرب برزت إلى واجهة الأحداث بقوة بعد أزمة وباء كورونا والعملية العسكرية الروسية في أوكرانيا.
يسيطر النظام الرأسمالي اليوم على أسواق النفط والغذاء والدواء
ويستعملها أسلحة لإخضاع الشعوب والهيمنة على مقدراتها
مع تصاعد قوة شركات إنتاج المبيدات والأسمدة الزراعية، تصاعدت أهمية البذور المقاومة للظروف المناخية والآفات الزراعية، إذ إن إنتاج سلاسل جديدة من هذه البذور يسبب خسائر فادحة لهذه الشركات، كما أن زيادة عدد سكان العالم وتفاقم أزمة الغذاء العالمية دفعت الدول الرأسمالية لاستعمال الغذاء كسلاح في مواجهة الشعوب، وجميعنا يذكر اتفاقية «النفط مقابل الغذاء» التي فرضتها الأمم المتحدة على العراق إبان الحصار الغربي الإجرامي عليه، وكعادة النظام الرأسمالي، التقى السياسي مع الاقتصادي لتكون شعوب العالم الضحية المثالية لماكينة النهب الرأسمالية.
في العراق كان المزارعون يحصلون على البذور من خلال الشركة الوطنية لتوزيع البذور التابعة لوزارة الزراعة العراقية، وكانت الدولة العراقية تمتلك 17 مركزاً لإكثار البذور من خلال المؤسسة العراقية لتنمية البذور، ومركز تكنولوجيا البذور، ومؤسسة ما بين النهرين للبذور، بعد حرب «ناتو» بقيادة الولايات المتحدة على العراق واحتلاله في عام 2003 أصدر مجلس بريمر، سيئ الصيت، قراراً بمنع استعمال البذار المحلية وأجبر المزارعين على استخدام البذور المستوردة المعدلة جينياً، واختفى بنك البذور العراقي من خريطة مؤسسة الدولة العراقية، وما زال مصير موجوداته مجهولاً.
في سورية كانت عملية توزيع البذور شبه محصورة بيد الدولة التي كانت تقدمها للمزارعين بشكل مباشر أو من خلال الجمعيات التعاونية واتحاد الفلاحين، وكانت وسائل الإعلام المقروءة والمسموعة والمرئية تعلن بشكل متكرر عن مواعيد تسليم البذور عند بداية كل موسم زراعي، كما كانت هناك شركات خاصة تتولى عملية تبادل البذور بين المزارعين إلّا أن دورها كان محدوداً وضمن شروط تحددها الدولة.
اللافت للنظر أن الولايات المتحدة استهدفت بنوك البذور في كل حروبها الحديثة، فقد سبق لها أن قصف بنك البذور الزراعية في العاصمة الأفغانية كابول، وكما أسلفت قامت بنهب بنك البذور العراقي، وتابعنا خلال الحرب على سورية تصميم المسلحين الذين تديرهم الولايات المتحدة على الاستيلاء على مراكز البذور، خصوصاً في محافظة حلب واستماتتهم في الدفاع عنها خلال معركة تحرير ريف حلب، فحرب البذور، إذاً لا تخاض على جبهة الأبحاث، أو المعاملات التجارية كما يعتقد أغلبية الناس، إنها حرب حقيقية تخاض بالطائرت والدبابات وجنود المشاة ومراكز الاستخبارات العالمية.
مواجهة حرب البذور تكون بتوسيع التعاون الإقليمي بين الدول واتحادات المزارعين
ونقابات المهندسين الزراعيين لحماية أصول البذور المحلية لأنها أسلحة في معركة الاستقلال والسيادة
في عام 2014 أطلقت قناة «TV5» الفرنسية فيلماً وثائقياً بعنوان «حرب البذور» أكدت فيه أن خمس شركات عالمية كبرى تسيطر على إنتاج 75% من البذور في العالم، هذه الشركات هي »مونسانتو» التي تمتلك 30% من سوق البذور المعدلة وراثياً وتحقق إيراداً سنوياً قدرة 10.25 مليارات دولار كعائد سنوي من هذا القطاع، و«بايونير» من الولايات المتحدة، «ليماغران» من فرنسا، «سانجانتا» من سويسرا والتي تحقق إيراداَ سنوياً قدره 13.6 مليار دولار، وشركة «باير» من ألمانيا التي تحقق إيراداً سنوياً قدره 19.5 مليار دولار، الحبوب التي تنتجها هذه الشركات عقيمة والمزارع لا يستطيع اقتطاع جزء من المحصول لاستعماله كبذور للموسم القادم، ما يضطره إلى الاستمرار في شراء هذه الحبوب من الشركات الكبرى.
يسيطر النظام الرأسمالي اليوم على أسواق النفط والغذاء والدواء، ويستعملها أسلحة لإخضاع الشعوب والهيمنة على مقدراتها، إن التقارير الواردة عن طريقة تعامل النظام الرأسمالي مع اتفاقية الحبوب الأوكرانية، والتي تشير إلى أن 3% فقط من الحبوب المصدرة بموجب هذه الاتفاقية تذهب إلى الدول الفقيرة وبرنامج الغذاء العالمي، هذه التقارير تؤكد توحش النظام الرأسمالي واستهتاره بحياة الإنسانية وزيف ادعاءاته الإنسانية.
المقاومة لهذه الحرب موجودة ولم تتوقف يوماً، في سورية ادركت الدولة لأهمية حرب البذور كجزء من الحرب على سورية فمنعت بيع أو استيراد البذور المعدلة جينياً نظراً لضررها الصحي والبيئي، إن إصدار هذا القرار في خضم حرب كونية على سورية يشير إلى إدراك الدولة السورية لأهمية حرب البذور كجزء من الحرب على سورية، في العراق أوقفت الحكومة العراقية في عام 2010 استيراد تقاوى البطاطا، ثم أصدرت في عام 2012 القانون رقم 50 الذي يدعو المزارعين العراقيين إلى تسجيل واعتماد وحماية الأصناف الزراعية المستنبطة في العراق من قبل باحثين عراقيين، والاستمرار في دعم المزارعين العراقيين بالبذور، في مصر افتتح في عام 2003 البنك القومي للجينات والمواد الوراثية الذي يقوم بجمع وتوصيف وتوثيق عينات الأصول الوراثية للمحاصيل الحقلية والبستانية، كما عمدت الدولة إلى افتتاح بنك للبذور في منطقة الوادي الجديد عام 2022.
الحرب تخاض على جميع الجبهات، وجبهة حرب البذور من أهمها لأنها تؤثر على البيئة والمجتمع والدولة لسنوات طويلة حتى بعد الانتهاء من الحروب في ميادين المعارك. الحل الأمثل هو توسيع التعاون الإقليمي بين الدول واتحادات المزارعين ونقابات المهندسين الزراعيين لحماية أصول البذور المحلية لأنها أسلحة في معركة الاستقلال والسيادة.
كاتب من الأردن
اقرأ أيضا:
«حرب البذور» الأميركية.. العراق ثم سورية أول ميادينها العسكرية