روايةٌ تامّة

تروي أحداثاً مهمة، وهي تظهّر عصرَ هذه الأحداث بوضوح رغم أنها قد تترك ظلالاً للتأويل والاجتهاد الذهني، مع أنها لم تُكتب بحروف، ولم تَستخدم لغة الترقيم، ولم تمرّ على رقيب النصوص، ولا على آلات المطابع وصناع الأغلفة المميزة، ولا تعرفُ تعدُّد النسخ، ولا التنقُّلَ في المكتبات والمعارض!
لوحةُ الفنان التشكيليّ هي روايةٌ من نمط خاص يأتيها القارئ إلى حيث توطّنت بشكل نهائي على حاملٍ أو جدار، مثلُها مثلُ أوابد العمارة من قلاع وقصور وجسور ومدن، لا تغادر مكانها، ولا تقلّبها اليد كما يفعل القارئ بورق الكتاب لكنها تُقرأ بانتباهٍ ويقظة حواسّ كاملة، وفي عالم الثقافة الإنسانية تسيَّدت بعضُ اللوحات مكانةَ الملاحم المكتوبة والمغنّاة، وتبوأ الرسامون قمماً استأثر بها الرّوائيّون والشعراء، فكانت موضوعاتُها تعطي بوضوح صفات عصرها ليس من تفصيل الملابس ولا من الأدوات المستخدمة كالكوب والأريكة والستائر والنوافذ والسرير والمسرح والحقل وأدوات الزراعة والركوب فحسب، بل من الحالة الاقتصادية والاجتماعية والعاطفية التي سادت في عصر الرسام، إذ يرى «القارئ» أدوات الزينة المستخدمة: أقراط اللؤلؤ أم طوق أزهار برية؟ وعاء خزفٍ أم سلة قشّ؟ حذاء ساتان أم حذاء جلديّ خشن؟ عربة يجرها جواد أم قطار سريع؟ وتبدّد الإضاءةُ في كل لوحة غموض الحدث الروائي الذي يتعمَّده الكاتب، وربما لا يجلوه إلا بعد مئات الصفحات لأن العين الحاذقة تجول في أنحاء اللوحة المبسوطة أمامها بسرعة تفوق القراءة التقليدية، وتقع على التفاصيل التي تعمّق الموضوع! ومن خصوصيات «اللوحة-الرواية» أنها تُكتب بيد واحدة لا يستطيع رقيبٌ حذفَ حرفٍ منها، وأن بوسعها أن تستخدم «المجاز» بخطٍّ دقيق أو بموجة لون أو تمويهِ ظلّ ليذهب متأمِّلُها بعد ذلك إلى مكانٍ آمنٍ أليف لا غموض فيه إلا فيما ندر، وإذا كان العالَمُ الروائي يزدحم بمئات الكتّاب ويتداخل في ذائقة الشعوب عبر الترجمة، فإن اللوحة لا تحتاج إلى الترجمة التقليدية حتى تعبر الحدود وتعاني من سوئها الذي لا تنجو منه دائماً بسبب خصوصيات كل لغة واختلاف إيحاء مفرداتها وتراكيبها، كما أن أعلامَها مازالوا قلةً إذا قورنوا بكتّاب الكلمة، والحاجة إليها ليست مجردَ «تصوير» لأنها كانت تنحَّت من الوجود بعد اختراع «الكاميرا» التي تطورت وجالت وصالت بيد حامليها، لكنها أبداً لم تنفذ إلى حيث «كوكب» لوحة الفن التشكيلي التي لم تسجّل صورة راهنة، بل جعلت من المشهد «رواية» تامة متصلة بالأزمنة الثلاثة: الماضي، والحاضر، والمستقبل، ولا داعي هنا لاستحضار اللوحات الشهيرة لفنانين عالميين تُنوقلَت أخبار لوحاتهم بأثمانها الباهظة وإشادةِ النقاد بها، بل يكفي أن نعطي انتباهنا إلى فنّانينا الذين أبدعوا في كتابة أناشيدَ لونية عن حياتنا ويومياتنا ومشاعرنا وأحلامنا وطبيعة أرضنا وتلك الرياح الزمنية التي مرّت وغيّرت فينا ما غيّرت، وما أكثرهم من فنانين، وما أجملهم من كتّاب بالحب والأناة والأصالة!

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار