الباحث أيمن العلّان في بحثه الطويل عن «جماليات الإبداع الفنّي» من خلال النظريات والشواهد
تشرين-علي الرّاعي:
في بحثه الطويل «جماليات الإبداع الفنّي- نظريات وشواهد» وهو الكتاب الأقرب للكتب الموسوعية الصادر عن دار الينابيع بدمشق؛ يُحاول الدكتور أيمن العلّان أن يُجيب عن سؤالين، هما بقدر بساطة الإجابة وبداهتها، بقدر تشعبها وتنوعها وتعددها التي تصلُ على الأغلب إلى عدم الاتفاق، وهذا ما يزيد من سعة المفهوم واحتمال تعدد الأوجه والقراءات الكثيرة.. وهذان السؤالان اللذان يُحاول د. العلّان الإجابة عنهما هما: ما الفن؟ وكيف يظهر الفن؟ وللوصول إلى ما يُشبه الإجابة، يُخوّض الباحث في عشرات النظريات والشواهد، لأنّ السؤالين رغم ما يوحيان به من ارتباط، هما مُختلفان كل منهما عن الآخر تمام الاختلاف، وعلى ذلك، فإنّ من الضرورة أن يُجاب عنهما بطرق مختلفة كلّ الاختلاف.
سؤال: ماالفن؟ يجده الباحث بعيداً كل البعد عن البساطة، لأنه بعد أن يتم إنتاج الموضوع الفني، يُمكن النظر إليه وفهمه من وجهات نظر كثيرة ومُتباينة، وعلى قاعدة طرح السؤال يبدأ الباحث أيمن العلّان أبحاث وفصول الكتاب، ولكن ليس ليُجيب عنها بالأجوبة الحاسمة، ولكن ليؤكد بما يُشبه الحسم، أن ليس من جوابٍ حاسم، وإنما يفرد مساحات واسعة للإفاضة بالسؤال والتساؤل، وربما لبسط أكثر من رؤية ووجهة نظر تاركاً المُتلقي يصل لاستخلاصاته واستنتاجاته التي تُرضي قناعاته، والتي قد تختلف أو تتفق مع قناعات آخرين، تاركاً للإشكالية المزيد من الاستفاضة والتوسع بعرض الرؤى المختلفة.
فما الذي يتميز به الفنان المبدع الخلاق عن غيره، وما الفن الجميل؟ سؤالان وأسئلة كثيرة أخرى يطرحها الباحث كوسيلة لاستعراض الأجوبة الكثيرة للوصول إلى أقوى الإجابات عن السؤال والتي كانت الأكثر تأثيراً في الفكر الجمالي.. يُشير الكاتب إلى أن الفن بمعناه الواسع، هو أي نشاط بشري يُؤدّى ببراعة وإتقان، ويستهدف غرضاً، هذا هو النشاط الفني، والموضوع الذي ينتج على هذا النحو هو العمل الفني، مثل هذا الموضوع لم يُنتج بوساطة العمليات الطبيعية أو بفعل بشري عفوي، ومن هنا فإنّ قدراً كبيراً من الموضوعات التي نراها حولنا في حياتنا اليومية يُمكن أن توصف بأنها أعمال فنية، بل إنه في عالمٍ بلغ قدراً كبيراً من التقدم التكنولوجي، تكاد جميع الأشياء التي نتصل بها أن تكون فنية، فملابسنا وأطباقنا وأثاث منزلنا وسيارتنا وجرائدنا، كلها أعمال فنية. غير أنّ الباحث – وكعادته – سرعان ما يجعلك تنقلب على هذه الخلاصة، ويزرع في نفسك الشك بين التسليم حيناً والجدل والسجال الذي يعقب تلك الخلاصة، وهو ما يدفع المرء لعدم الركون، وإنما السعي دائماً باتجاه حقيقة لا يُمكن لأحد مهما اجتهد أن يصل مبتغاها، لأن الحقيقة هي دائماً أمامنا، ولن تكون يوماً خلفنا ومُخطئٌ من يظن أنها أمست في جيب يقينه.
لأنه إذا كان هناك شيء ناتج عن جهد بشري متأنٍ، ولم يكن يتصف بجاذبية، أو بشغف خاص عند تأمله، وإذا كان انتباهنا يقتصر على مجرد الملاحظة، سنتردد في تسميته موضوعاً فنيّاً، وهكذا يظهر بوضوح ما ينطوي عليه الاعتراض في جوهره، فنحن في كثير من الأحيان نستخدم لفظ الفن تعبيراً مختصراً عن الفن الجميل، وهكذا يتكشف لنا أن الطريقة التي نتحدث ونفكر بها عادةً عن الفن تؤكد قيمته بالنسبة إلى الإدراك الأستطيقي، وهذه القيمة هي جمال الفن الجميل، فالموضوع لا يكون عملاً من أعمال الفن الجميل ما لم يجذبنا استطيقياً، وترتكز نظرية الفن التي نحن بصددها الآن على هذا الاعتقاد الذي يُسلم به الذهن العادي.
الفن الجميل؛ هو إنتاج الإنسان لموضوعات تتسم في ذاتها بأنه من الطريف إدراكها، وأي موضوع يتسم بجمال الفن إذا كان الإنسان ينتجه ببراعة من شأنه أن يكون إدراكه في ذاته طريفاً.. يُمكن للعمل الفني أن يشتمل على الموضوع والشكل والتعبير، ولكل منها أهميته، فنظرية الجمال الفني تذكرنا بتعقّد العمل الفني، وبذلك تجعل من الصعوبة بمكان النظر إلى الفن بطريقة قاصرة محدودة، وتُجيب نظرية الجمال الفني عن السؤال: ما الذي ينبغي أن نبحث عنه في العمل الفني؟ فتقول: ينبغي أن نبحث عن كل ما فيه، وهذه الإجابة تُعبّر عن الشمول الكامن في التعاطف الجمالي، وتُحذرنا من التضحية بأية قيمة تنطوي عليها التجربة الجمالية. ولمّا كانت نظرية الجمال الفني شاملة على هذا النحو، فإنها تصلح كمرتكز سليم للنقد الفني، إذ إنها تُسلحنا بأدوات عدة متنوعة لتحليل العمل الفني.. وبعد استعراض الباحث نظرية المُحاكاة، والنظرية الانفعالية، ونظرة الجمال الفني، ليُجيب من خلالها عن أسئلة: ما السمات التي تُميّز أعمال الفن الجميل عن الموضوعات الأخرى، وعن الموضوعات الفنية الأخرى بوجهٍ خاص؟ وما سمات التجربة الجمالية التي تقوم بأعظم دور في تحديد قيمتها؟ وإنه من الطبيعي أن يُطرح السؤال الآتي: أي النظريات تُقدم إلينا إجابات صحيحة عن هذين السؤالين؟ في خصوصية العمل الفني؛ يذكر الباحث: إنّ ثمة نوعاً من العذاب يُحاول الفنان دون علمه أن يتخلص منه، فيمسك بالقلم أو الفرشاة ليتخلص مما يُضايقه، كما يُحاول الجسد السليم التخلص من جرثومة ضارة، وهذه الظاهرة عرّفها أرسطو عندما قال لتلاميذه إنّ المأساة المسرحية تُمارس لدى المُتفرج «تطهيراً للأهواء والشهوات» أي إن العمل الفني يُمثل لدى المبدع ولدى المُتأمل تخليصاً من الطاقة المشاعرية العليلة التي كانت تراكمت لأقصى الحدود لديهما على اتجاهات مُعينة، نتيجة لكبتهما ولاستحالة التخلص منها إذ ذاك، ومن هنا نستطيع أن نفهم إلى أي حد يُمكن أن يكون الفن تنفيساً.