أسطورة (برومثيوس) والعالم المادي
تشرين- د.رحيم هادي الشمخي:
الأسطورة لفظ مشتق من الجذر اللغوي (سطر) بمعنى كتب، وفي الأصل إنها مثل رمزي لفكرة معرفية أو قاعدة كونية، تأخذ في التعبير هيئة حكاية تنتقل بين الناس بواسطة الرواية، وتشرح بالرمز والمجاز والتورية أفكاراً لا يتقبلها العامة أو ظواهر لا يستسيغها الكل، سواء من المعرفة القدسية أم من القواعد الكونية أم من الحقائق الطبيعية، وهي في رأي عالم اجتماعي شهير هو (ماكس مولر) ابتكار بشري للإبانة عن الحقيقة في لغة مجازية، ومع مرور الوقت ينسى الناس المجاز ويأخذون الأسطورة حرفياً، ويفهمونها على أنها واقع قد تحقق.
ومن أشهر الأساطير الإغريقية هي أسطورة (أوديب) الذي تزوج أمه بطريق الخطأ وأنجب منها ثلاثة أولاد، ولما عرف الحقيقة فقأ عينيه، وأسطورة (سيزيف) الذي قضت عليه مقاديره بأن يدفع حجراً من أسفل الجبل إلى أعلاه، وكلما بلغ غايته سقط الحجر إلى السفح فتعين عليه أن يعاود الكرّة، وهكذا دون أن يهدأ أو ينعم بالراحة، أما أسطورة (بروميثوس) فقد بحثت دور الأسطورة في الفكر الإنساني، و(برومثيوس) بطل أو سيد أو كما يُقال (رب) عرف أحوال الشقاء التي يعيشها البشر، وما تؤدي إليه من دورات الحياة أو الموت، والعناء والعذاب، والشجار والنفار، وأدرك أن لا حل لهذا الوضع المؤلم والذي لا ينتهي أبداً، إلا بأن يدرك الناس ويستوعبوا التعاليم السرية للمعرفة القدسية، و بإمكاناته كبطل يتميز عن البشر بالقدرة، كما يفوقهم بالمعرفة، حيث استطاع اختراق الحاجز المادي الذي أقامته أرباب أو (أسياد) العالم المادي واتجه إلى ما وراء هذا العالم، حيث العالم العلوي الذي خالص للألوهية والقدسية والجلالة، فأتى بالمعرفة القدسية وقدّمها للبشرية، جذوة من نار تضيء الطريق المستقيم وتحرق الجهل والظلم والضلال، وغضبت منه أسياد (أرباب) العالم المادي لأنه خالفها وسعى أن يقدم للبشرية أسباب الخلاص الحقيقي منها، ومن ثم فقد ربطوه في جبل وتركوه كيما تنهش الجوارح كبده طوال النهار، فإذا جن الليل عادت الجوارح إلى أوكارها، وهكذا ظل معذباً في عناء طويل، حتى استطاع بطل مثله هو (هرقل) أو باليونانية (هرقليس) أن يفك أغلاله، وبذلك أنقذه من العذاب، وهذه الأسطورة أثّرت في الفكر الإنساني أثراً بعيداً.. فقد ألهمت الشاعر الإنكليزي (شلي) 1792- 1822، فكتب عنها مسرحية (برومثيوس طليقاً) يستلهم فيها مبادئ الثورة الفرنسية، ويبشر بخلاص البشرية، كما أن المعنى ذاته هو الذي أدى بالموسيقار (لودفيج فان بيتهوفن) 1770- 1837، إلى أن يضع مقدمة موسيقية باسم (برومثيوس).
ويذكر أن العرب قدموا إلى الإغريق بعض المفاهيم المعرفية وبعض التعاليم السرية في صور رمزية، صارت أساطير، وأصبح لها وضع بارز في الفكر الإغريقي باعتبارها إشارة إلى نظام كوني غامض عنهم، ومن ثم صارت لديهم دلالة على ما يسمى باللعنة القدرية أو لعنة القدر، تقدمها الأسطورة في صورة مبالغ فيها، شأنها في ذلك شأن الرسم التضخمي، (الكاريكاتيري) لكي تحدث في النفوس أثراً مبالغاً فيه، وهي في ذلك تقدم علاقة غير واضحة بين المقادير والرجال والأبطال خاصة تجعلهم دائماً في صراع أزلي لا يُحل وفي كفاح دائم لا ينتهي.