أزمةُ الأزمة

تضحك طالبة الصف التاسع، وهي تحكي عن ردة فعل أستاذ اللغة العربية على موضوعات التعبير التي كُتبت في الصف بتكليف منه! كان غاضباً من مستوى الكتابة الذي ينمّ عن الاستعجال والاستسهال واختصر نقدَه بجملة، هي التي أضحكتها: -ما هذا؟ شعرتُ أنني أقرأ لمستوى الصّفّ الرّابع الابتدائي! وواصلت الكلام عن عناية مدرسَتِها الخاصة باللغات الأجنبية؛ إذ إنها لم تعانِ يوماً من كتابة موضوع بالإنكليزية أو الفرنسية. ولأنني أعرفها جيداً في مطالعاتها الأدبية باللغة العربية فهمتُ ما سرَدتْه أمامي عن أنها تقرأ بسلاسة، وتستمتع جداً بما تقرأ لكنها فوجئت أن الكتابة شيء آخر يحتاج إلى تفكير حين الصياغة ويربِك بالقواعد: الحالُ والصفة والتمييز والمفعول به والمفعول لأجله والعدد والمعدود، وأن الوقت الضيق هو أسوأ رفيق للكتابة السليمة المركّزة!
كانت اليافعة تلامس، من دون أن تدري، مسألة في غاية الأهمية، وهي الفرق بين التعبير الشفوي والتعبير التحريري، أما ما قاله الأستاذ عن مستوى الصف الرابع، فهو فصلٌ بين طفولةٍ بلا خبرات معرفية باللغة والصياغة ويفاعةٍ يُفترض أنها عُزِّزت بالمطالعة الغزيرة، رغم أنه ينتمي إلى أمة توصف بأنها لا تقرأ وربطاً بذلك يُحصى عدد الكتب الصادرة والمترجمة سنوياً ونسبتها إلى عدد السكان، ودائماً تُذكر الظاهرة بصفة أزمة تحتاج إلى معالجة!
الدراسات تقول إن روائز الذكاء عند الطفل المعاصر ارتفعت بشكل قياسي، والواقع يقول إن العلم انتشر عبر المدارس، بل وصار مفروضاً بقوة القانون، وشاهِدُ العصر العادي يرى بعينه انتشارَ وسائل التواصل المذهل في تقريب البعيد وبذل الخيارات غيرالمحدودة في فضِّ أختام المعارف، لكن هل انتهت الأزمة؟ أزمة غزارة المطالعة؟ هل نزل الحِمْلُ عن كاهل الأهل والمدرسة ووزارتي الثقافة والإعلام؟ هل تخلى الأهل عن شكوى غلاء كتاب المطالعة، وهم أنفسهم يدفعون مئات الألوف ثمن الأجهزة «الذكية» المحمولة ويعدّونها مهمة للولد مثل المعطف والحذاء تماماً؟ وحين عمدت وزارة الثقافة إلى النشر الإلكتروني بحكم الضرورة، هل توافد إليها قراؤها من الصغار ليطالعوا، وينعموا بالرسوم الجميلة؟ وكم يلتفت الإعلام في برامجه إلى هذا الجيل ليحفِّزه على الارتقاء؟
يبدو أن الأزمة الأصلية المتعلقة بمطالعة الأطفال كانت وليدةَ أسبابٍ أخرى لم يلمسها الخبراء بجدية وعمق، وهي موجودة في مكان ما، أوضح تجلياته في الحفر العميق باتجاه العلامات الدراسية التامة حتى وهي ترهق كاهل الأهل مادياً وكاهلَ الطفل نفسياً، لأن هذا الطفل صار يتمزق أربعاً وعشرين ساعة بين المدرسة ومعهد رفع المستوى والمدرسين الخصوصيين والنوتات البديلة عن الكتب!
لم أستطع شرح وجهة نظري لليافعة المتعاطفة مع أستاذها، لأنها كانت تعد نفسها بالتدرب على كتابة التعبير في وقت ما، ليس فيه ضغوط كتابة الوظائف ولا اللوم المبطن من الوالدين لأنهما يدفعان أقساطاً خرافية لمدرستها ولا الامتحان المفاجئ والمتأخر للإفادة من مطالعاتها!

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار