التصويرُ الواقعيّ السوري المعاصر.. الغزارة في الكمّ والنوع عند هنري صايغ

تشرين- سامر الشغري:
في مدرسة التشكيل الواقعي السوري نجد مذاهب شتى ومناصرين متباينين في الآراء والاساليب، رغم أنها تبدو للوهلة الأولى واحدة أو متشابهة.
والفنان التشكيلي هنري صايغ مثال حاضر على ما في هذه المدرسة من تنوع، فهذا الفنان يكاد أن يكون فان كوخ على الطريقة السورية، شديد الغزارة في الإنتاج وافر التدفق في العطاء، صاحب شخصية متمردة وحساسية عالية، جعلته يبتعد عن الأضواء والإعلام ويخلد لريشته ومرسمه وألوانه، فقدم الكثير من الأعمال الجميلة والمدهشة ولكن بعفوية ومن دون تنظيم أو توثيق كما وصفه الناقد أديب مخزوم.
ومن نظرته للرسم الواقعي يبدأ صايغ حديثه ليخبرنا عن إيمانه الكبير بارتباط التشكيل بالواقع، فالرسم عنده تحديد للأشياء بشكلها الحقيقي وتعبير عن الموجودات وما حولنا من أحداث وأشخاص بشكلها الواقعي، لذلك يجد أن المدرسة الواقعية تساعده في التعبير عما يرسمه وتجعله على صلة تامة مع الطبيعة وعناصرها من أرض وسماء وضوء وشمس، لدرجة يشعر بنفسه وكأنه أصبح جزءاً منها، فيتوغل أكثر في المشهد ليضفي جمالية أكثر على اللوحة.
لقد ابتكر صايغ واقعية خاصة به بعيداً عن أي مسايرة لموجة عامة أو لآراء نقاد، وجاءت ثمرة سنوات طوال من حواره مع فضاء اللوحة، ووقفت على حدود الحداثة ولم تختلف كثيراً عن الانطباعية بالشكل واللون.
ولا يستبعد صايغ رغم ذلك أن تواصل الواقعية عنده تطورها في مسيرة بطيئة تحددها رغبته، فقد يأخذه توالي الأعمال التي يرسمها إلى انفلات أكبر يتحرر من دقة التفاصيل الذي تطلبه المدرسة الواقعية.
ويعارض صايغ بشدة التشابه الذي يتحدث عنه بعض النقاد والفنانين الحداثيين بين الرسم الواقعي والتصوير الفوتوغرافي والرسم ببرامج الكومبيوتر، ويجد أن هذه الطرح ظهر من دون تفكير أو دراسة أو تمعن، فالواقعية كما يراها مشهد حيّ وهي مختلفة كلياً عن صناعة صورة الفوتوغراف الجامدة، وعندما يرسم الفنان المشهد يصبح هو جزءاً من زمانه ومكانه، ولا ترقى الصورة إلى هذه المرتبة مهما بلغت دقتها.
ولا يرى صايغ في انتشار الواقعية بين فناني اليوم ظاهرة سورية، بل هي في رأيه توجه عالمي يتجلى في حضور الواقعية الدائم واستمرارها في كل البلدان كدليل لمتانتها ولأنها الأساس الضروري لأي فنان أو أي مدرسة فنية، ومن قدرتها المدهشة على التكيف والتطور مع كل الظروف والأزمنة والمتطلبات، ولأنها تقدم للجمهور لوحة عصرية وحديثة إن أراد الفنان توظيفها حسب قدراته وموهبته ورؤيته الخاصة.
وعن خروجه وأقرانه عن الحداثة التي جاء بها الرواد يعدّ صايغ أن هذا الأمر اختياري، وتبع لكل فنان وشخصيته وميوله الفكرية والفنية ورؤيته وطريقته للتعبير عن نفسه والحياة حسب مقدرته وموهبته، وليس من الضروري إن كان أسلافنا من أنصار مدرسة بعينها أن نتبع آثارهم، فالفن ليس تسلسلاً حتمياً ولازماً، ولا هو بحث علمي مدروس نتائجه تشبه مقدماته، وأهم ما في في الفنون حرية التعبير باختلاف الأدوات والأساليب من فنان لآخر.
ولأن الحرية شرط لازم للفنان، فإنها تبدأ في الرسم الواقعي في رأي صايغ عبر التخفيف من التدقيق على التفاصيل لكيلا تصبح قيداً خانقاً على الفنان وعمله، وهو يعتقد أن الفن بحاجة إلى التعطيل الجزئي للتفكير والحسابات حتى ينبع من القلب، وليس من العقل.
ورغم أن صايغ يعطي للخيال ركناً مهماً في الرسم الواقعي لكنه ليس كل شيء، فالفنانون الذين يرسمون بناء على ذاكرتهم من دون مشهد أو موديل حي يقعون في أخطاء في التشريح وفي توزيع الظل والنور، وهذا في رأيه يؤدي إلى قلة عدد الفنانين الواقعيين المتميزين.
وما من شروط يضعها صايغ لاختيار مشهد ما ليرسمه، فأي مشهد يقع عليه بصره من الممكن أن يتحول إلى عمل فني، والمهم هو كيفية اقتناص الزاوية المناسبة للرؤية والعنصر أو العناصر المراد العمل عليها إضافة لمراعاة الحضور الواضح للظل والنور أو عدم وجودهما، وتعويض غيابهما بالتركيز أكثر على الخط واللون وتكوين المشهد، ويضرب لذلك أمثلة نجدها في لوحات عالمية لمشاهد بسيطة وغير لافتة للنظر لعامة الناس لكنها تحولت إلى أعمال فنية في غاية القوة والجمال.
وقد يستغرب البعض إزاء قلة اكتراث صايغ بدور البيئة كمحرض أو دافع على الرسم الواقعي، ولكن هذه هي قناعاته التي تأثرت بشخصيته وفكره واعتماده على المنطق وتجسيد ذلك باللون والإحساس الفني، ليعكس عبرها ما يعتلج في داخله، وما يعبر عن شخصه هو.

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار