لماذا يحقُّ للشاعر ما لا يحقُّ لغيره؟

تشرين-علي الرّاعي:

كثيراً ما تساءلت “ولماذا يحقُّ للشاعر؛ ما لا يحقُّ لغيره”، ولماذا بحجة “الضرورة الشعرية” يحقُّ له أن ينتهك ما اتفق عليه من قواعد اللغة؟ وكان الأجدى بالشاعر، وهو (القوّال) في اللغة يصطاد معانيها، وينحت تراكيبه الخاصة، ويُجدد في سياقاتها.. والحال كذلك؛ الأجدى أن يجوز لغير الشاعر ما لا يجوز له، طالما أن ليس من “ضرورة” وهو المُتمكّن من اللغة وقواعدها وصائد غزلان مجازاتها أن يلجأ لمثل هذه “الضرورات”.. من هنا يرى الدكتور عصام درار الكوسى الضرورة الشعرية من أهم المشكلات التي تعتري الشاهد الشعري ولها أثر مُهم في بناء القاعدة النحويّة، وهي قضية اختلف العلماء في معناها، وأسبابها، وموقفهم منها، الأمر الذي ترتب عليه خلافٌ في التقعيد النحوي، بين التقعيد الشمولي العام، والتقعيد المخصوص للغة الشعر..

ومع إنّ للشعر منزلة مهمة لدى علماء العربية، فقد جرى الخلاف بينهم فيما يحتج به منه، وتبنى عليه القواعد والأصول، لأنه موطن الضرورات الكثيرة التي اختلف فيها علماء النحو فيما جاز للشاعر ارتكابه منها وما امتنع، وعقدوا أبواباً خاصة في مصنفاتهم لما يجوز للشعراء ارتكابه وما لا يجوز للمتكلم استعماله في كلامه ونثره.. الضرورات التي جمعوها بسبع وهي: ضرورة الشاعر أن يضطر الوزن إلى حذف، أو زيادة، أو تقديم، أو تأخير في غير موضعه، وإبدال حرف، أو تغيير إعراب عن وجهه على التأويل، أو تأنيث مذكر على التأويل..

لكن ما معنى “الضرورة”؟ يُعرفها الدكتور الكوسى في كتابه (الضرورة الشعرية ما لها وما عليها) الصادر عن الهيئة العامة السورية للكتاب ضمن سلسلة قضايا لغوية؛ لغةً: مأخوذة من الاضطرار، وهو الحاجة إلى شيء أو الإلجاء إليه، واصطلاحاً: أخذت من مصطلحات الفقهاء والمفسرين، إذ تعني لديهم تجاوز أصل، أو قاعدة فقهية، إذا دعت ضرورةٌ إلى ذلك. وفي اصطلاح النحويين: هي ما وقع في الشعر مُخالفاً للقياس مما لم يقع له نظير في النثر، سواءٌ أكان عنه مندوحةٌ أم لا، ومنهم من قال إنها ما ليس للشاعر عنها مندوحةٌ.. وبما أنّ لغة الشعر؛ هي لغة فنية جمالية من جهة، ولغة انفعالية تلقائية من جهة أخرى، وهذه اللغة تخضع لضوابط وقيود يلتزمها الشاعر من دون غيره، وأهم هذه الضوابط الوزن والقافية اللذان يُقيدان الشاعر، ولا يُعطيانه حرية التعبير التي يمتلكها الناثر، إذ تدفعه هذه القيود إلى خرق مألوف القواعد، وإلى الخروج من الترتيب المنطقي للكلام كي يتحقق له الوزن وتستقيم القافية.. هذا الخرق؛ هو ما اصطلح النحاة على تسميته بالضرورة الشعرية.. ويُعدد الكوسى الأسباب التي تدفع للضرورة الشعرية برأيين للعلماء قديماً وحديثاً، الرأي القديم يقول: إنّ للشعراء أساليب خاصة يتجهون إليها بإرادتهم “أنى شاؤوا” جرياً وراء المعنى، وليس لواجهة عجز في مقدرتهم اللغوية، أو لضيق تسببه قيود الشعر، وإنّ هذه الأساليب ليست خطأً، بل تفوقٌ منهم على غيرهم، لأنهم يستخرجون “ما كلّت الألسن عن وصفه ونعته”، وأنّ هذه الأساليب تبقى محصورة في دائرة اللغة لا تخرج عليها.. كما أنّ هذه الأساليب قد تأتي موافقة للهجة ما في خصوصيتها، وهذا يعني أنّ ثمة لهجات لم تدخل في دائرة التقعيد العام للغة. بمعنى؛ إنّ هذه الضرورة تعني قوة طبع لدى الشاعر، سار بإرادته ليبلغ بالتعبير مستوى آخر من مستويات الاستعمال الواقعة في اللغة، وهو ما يتعارض مع تعريف الضرورة باعتبارها حاجة، وإن هناك رأياً مُعارض؛ يقول: إنّ الضرورة ليست دالة على قوة الطبع لدى الشاعر، إذ لو كانت كذلك لما تحاماها النحاة إن وجدوا إلى ذلك سبيلاً، ولمّا لحنها بعضهم.. أي يجدونها عيباً يجب الابتعاد عنه.. إذاً لِمَ الضرورة؟ عدّها ابن جنّي أنها تدلل على قوة الطبع لدى الشاعر، وعدّها حمزة الأصفهاني وسيلة من وسائل نماء اللغة وغناها ابتكرها الشعراء، وعدّها آخرون دليل ضعف وعجز لدى الشاعر أوقعته فيه قيود الوزن والقافية.

وأمّا رأي العلماء المُحدثين؛ فمنهم من جعل الشاعر محور إجابته، ومنهم من جعل النًحوي نفسه السبب في ظهورها، فندريس الذي عرّف الشعر بأنه لغة انفعالية تتفجر من النفس تلقائياً تحت تأثير انفعال شديد، ففي هذه الحالة يضع المُتكلم الألفاظ المهمة في القمة، إذ لا يتيسر له الوقت ولا الفراغ اللذان يجعلانه يُطابق فكرته على تلك القواعد الصارمة، قواعد اللغة المتروية، وعلى هذا النحو تتعارض اللغة الفجائية مع اللغة النحوية.. بمعنى إنّ التلقائية؛ هي المؤدية إلى مثل هذه الضرورات، وهذا ما يتناقض مع حوليات زهير بن أبي سُلمى على سبيل المثال، الذي كتب سبع قصائد خلال سبع سنوات والتي سُميت بالحوليات، ومع ذلك لم تخلُ من الضرورات..

فيما يرى الدكتور تمام حسّان أنّ خصائص اللغة الشعرية وقيودها التركيبية والشكلية؛ دفعت الشاعر إلى اللجوء للتوسع في الصرف والنحو لضرورة وغير ضرورة، لأنه لولا هذه الحرية الصرفية والنحوية لما أمكن مع قيود الشعر أن يكون أداة ناجحة من أدوات التعبير الفني.. فيما أرجع الدكتور محمد خير حلواني الضرورة إلى الحالة النفسية التي يعيشها الشاعر، ونظر إليها الدكتور رمضان عبد التوّاب إلى أنها أخطاء شعورية بمعنى يقعُ فيها الشاعر المنهمك بموسيقا الشعر من غير شعور منه. كما يُلقي أمر ذلك على علماء اللغة العربية الذين لم يجرؤوا على تخطئة الشعراء، من جهتهم أرجع الدكاترة: أحمد مختار عمر، إبراهيم أنيس، وعبد الجبّار النايلة، أمر الضرورة إلى النحاة أنفسهم، وذلك عندما وجدوا بعض الشواهد الشعرية لا تنطبق على قواعدهم، وحده عبد الوهاب العدواني أرجع أمر الضرورة إلى الرواة الذين غيروا في رواية أبيات القصيدة.. فالاضطرار وما يجوز في الشعر؛ سمح به سبيويه ليُعطي الشعراء مُتسعاً من حرية التعبير مُقابلاً لقيدي الوزن والقافية.

ومع الشعر الحر؛ باتت “الضرورة” غاية شعرية، ولعبة فنية لا يملُّ الشاعر المُعاصر من اللعب على حبالها.

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار