وقف المواجهة في أوكرانيا .. من يجب عليه أن يُهزم ؟

تشرين- م. ميشيل كلاغاصي:

مع اقتراب الذكرى الأولى لانطلاق العملية العسكرية الروسية الخاصة – المحدودة بأهدافها المعلنة، لحماية الأمن القومي الروسي, وحماية المواطنين الروس الذين يتعرضون للمجازر والقصف المدفعي والتعذيب منذ عام 2014 على الأراضي الأوكرانية, والتي حولتها الولايات المتحدة إلى مواجهة مباشرة مع روسيا, وعاشت بفضلها عشرات الدول حول العالم وتحديداً في أوروبا عاماً قاسياً, حمل من التداعيات والنتائج الأولية كمّاً هائلاً من الخطورة والانقسام، ظهرت فيه نيات دول الخندق الأول كفرنسا وبريطانيا وبولندا وألمانيا, والأحلاف السياسية والعسكرية على حقيقتها, بما لم يسبق لها أن مرت بأزمنة ولحظات مشابهة منذ عقود، وأظهرت بشكلٍ فاضح ما أعلنته صراحةً الولايات المتحدة والمملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي وكذلك حلف الناتو, وكشفت حقيقة مخططها واستخدامها أوكرانيا كميدان وساحة للمواجهة مع روسيا والتفرد بها بعد عزلها أو إبعادها عن حلفائها الإستراتيجيين بهدف “تدمير اقتصادها” و”تقسيمها” والإطاحة بزعامة الرئيس فلاديمير بوتين , لكن قساوة وضراوة المواجهة والمعارك العسكرية والإعلامية والاقتصادية والاستخبارية و….إلخ , والنتائج العسكرية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية , الكارثية خصوصاً في صفوف الفريق الغربي والأوكراني, خلال أشهر المواجهة الـ /11/ الماضية , جعلها تبدو وكأنها عشر سنوات, وبات الكثيرون حول العالم يفكرون في كيفية وإمكانية وقف الحرب, والاتجاه نحو التفاوض المباشر, والمراهنة على تقاربٍ ما، وإيجابيةٍ ما، في العلاقات الروسية الأمريكية, على أمل حصول التفاهم والاتفاق على حلولٍ منصفة ومناسبة.
على الرغم من استمرار المواجهة حتى نهاية العام وبداية العام الجديد, إلاّ أنه ومن خلال طبيعة البشر التفاؤلية دائماً , خصوصاً في فترة أعياد الميلاد ورأس السنة , راهن البعض على بعض التفاؤل بشأن العلاقات الروسية – الأمريكية , في وقتٍ يُعتقد فيه أن بعض التحولات قد بدأت بالحدوث فعلياً بين موسكو وواشنطن.
حيث التقى مؤخراً , رئيس جهاز المخابرات الخارجية الروسي ، سيرغي ناريشكين ، مدير وكالة المخابرات المركزية الأمريكية (سي.آي.إيه) وليام بيرنز، في العاصمة التركية , وناقشا خطر استخدام الأسلحة النووية في أوكرانيا وعدداً من القضايا الهامة , وعلى إثر هذا اللقاء ، تمت عملية تبادل للأسرى , شملت لاعبة كرة السلة الأمريكية بريتني غرينر, ورجل الأعمال الروسي فيكتور بوت ، الذي سبق ووصفته الولايات المتحدة بأنه من أكبر تجار الأسلحة في العالم , ورفضت إطلاق سراحه طوال 14عاماً , وسط أجواء تفاؤلية بعملية تبادلٍ أخرى , يطلق فيها سراح الجاسوس الأمريكي بول ويلان , مقابل إطلاق أحد المواطنين الروس الموجودين في السجون الأمريكية أو الألمانية.
تبدو الأجواء مشجعة على قراءةِ مشهدٍ مختلف للقادم من الأيام , بالتوازي مع تصريحاتٍ أمريكية تؤكد عدم حاجتها للصدام مع روسيا في أوكرانيا , وبأنها “غير مستعدة لبدء الحرب العالمية الثالثة لتحقيق رغبات حكومة كييف”.
يمكن قراءة بعض الإيجابية والرغبة المشتركة بين الروس والأمريكيين , للحفاظ على الحد الأدنى من الاتصالات والعلاقات , وبأنهما لا يسعيان إلى تصعيد المواجهة العسكرية إلى مستوياتٍ الخطورة التدميرية القصوى , ومع ذلك ، يبدو أن عملية تسوية التناقضات والخلافات الثنائية ، وإيجاد حلٍ للصراع , لا تزال بعيدة المنال.
وبالتالي ، يرى الروس أن الحل الدبلوماسي الوحيد الممكن الذي يضمن عدم حدوث حرب نووية , لا بد أن يكون بمثابة حل وسط يضمن حصول موسكو على قائمة المقترحات والضمانات الأمنية التي قدمها الرئيس بوتين إلى الولايات المتحدة العام الماضي , ورفضتها واشنطن , تحت ذرائع عدة منها , أن المقترحات تتعلق بمعايير نظام الأمن الأوروبي , وبأنها لا تستطيع بمفردها وبشكلٍ أحادي تحديد صلاحية تلك المقترحات , من الواضح أن واشنطن تتمسك بحرية تقدم وتوسع الناتو شرقاً , ورمي “شباكها” حتى في الفضاء الروسي.
كانت ومازالت مهمة موسكو صعبة ومعقدة , لتغيير “القواعد” ما بعد نهاية الحرب الباردة وحتى اليوم ، بفضل تعنت نظام الأمن الأوروبي , واستمرار اعتماده على توسيع هيمنة الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي , في وقتٍ كانت المقترحات الروسية محقة وضرورية بالنسبة لروسيا , ومفيدة للغرب , طالما أنها ستضمن تحويل أوروبا إلى فضاء للأمن والتعاون المشترك في إطار النظام الأمني الجديد ، والتي ستستفيد حتماً من خفض مستوى الهواجس والمخاوف من الصدام مع دول منظمة الأمن الجماعي , من خلال الابتعاد السلمي والهادئ عن فضاء ما بعد الاتحاد السوفييتي , بضمانة روسيا الاتحادية , الأمر الذي سيخفف من عدائية الناتو لروسيا.

ومع ذلك ، رفضت الولايات المتحدة المقترحات الروسية , بما يؤكد أن تصويبها أهدافها ليس على منظمة الأمن الجماعي , بل على روسيا تحديداً , لإزاحتها والتفرد بالسيطرة على الفضاء الأوروبي , وتحديداً فضاء الاتحاد الأوروبي , الذي يخلو تماماً من منافسين حقيقيين للولايات المتحدة , وعليه لم تجد واشنطن بُداً من تضخيم صورة موسكو وإظهارها كتهديد جدي وحقيقي لأوروبا بأسرها.
تبدو المقترحات الروسية , بما فيها الضمانات الأمنية المقدمة للأمريكيين , تشكل الفرصة الأخيرة للتوصل إلى اتفاق , كي يكون الحوار والتفاوض بعيداً عن احتمالية استخدام الأسلحة النووية , وببقائه مقيداً ببنود وشروط الاستراتيجية الدفاعية لروسيا.
تبدو واشنطن وحلفاؤها في بروكسل والناتو , عاجزين عن تحديد استراتيجيتهم , لاستمرار المواجهة بلا أفق , أو لاتخاذ القرار حول قبول التفاوض , وتحديد “من يجب عليه أن يُهزم” , هل هي أوكرانيا , وهذا سيتيح لهم تقديم التنازلات على حسابها , أم الإبقاء عليها في وضعٍ محايد ورفض انضمامها إلى الناتو , أم الإصرار على “سحق موسكو واقتصادها”, وإلحاق “الهزيمة الاستراتيجية”بها.
يبدو من السخيف , تعليق الأمل الأمريكي – الغربي , على أي تقدمٍ أو إخفاقٍ أو انسحابٍ عسكري روسي , من بعض المناطق في أوكرانيا , وهذا بدوره يدفعهم نحو استمرار التمويل ونقل السلاح إلى حكومة كييف , والاهتمام بزيادة كفاءته النوعية , وبتفجير أنابيب نورد ستريم 1 و2 , وتحديد سقف الأسعار, وغيرها من الخطوات التائهة.
وحتى اللحظة , لم تتوصل حكومة كييف , ودول الاتحاد الأوروبي , إلى اكتشاف حقيقة “السعادة” الأمريكية , بالأوضاع الحالية , وباستمرار انتقال المال الأوروبي إلى الخزائن الأمريكية , وأن الحل الوحيد يكمن في إجبار سيدهم الأمريكي للجلوس على طاولة الحوار والتفاوض مع روسيا , ومنحها ما تريد , ورمي الصبي والمهرج الأوكراني وحكومته النازية , وعزلهم وإعلان هزيمتهم ووقف دعمهم , وإلاّ فالمواجهة والحرب العالمية بالوكالة بين روسيا والغرب ستستمر , وأن الرهان على تحسن العلاقات الروسية – الأمريكية , لن يجبر واشنطن على منح الأوروبيين جزءاً من “الكعكة”.

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار