ما العالم سوى مجاز “كافكا على الشاطئ” لهاروكي موراكامي

تشرين-زينب عز الدّين الخيّر:

حين انتهيت من قراءتها سألت نفسي عما إذا كان مرور عشرين عاماً على صدورها يفقد الكتابة عنها الجدوى أو الجاذبية، خصوصاً أن هذه الرواية -“كافكا على الشاطئ” للروائي الياباني هارومي موراكامي- نالت حظاً طيباً من الشهرة، وهي تستحق ذلك فعلاً، فهي مدهشة، وساحرة، نابضة بالحياة ولم تتوقف عن إمتاع قرائها بمرور السنين. الرواية ضخمة وتمتد على اتساع (626) صفحة، وهكذا لن يتسع هذا المقال لأكثر من إطلالة سريعة جداً ودعوة أكيدة للقراءة.

تختلف روايات موراكامي – عموماً- عما قرأته من روايات الأدب الياباني، فتلك كانت تتعبني كأي ثقافة جديدة على المرء، إما لاستغراق الكاتب بالسرد مع وصف الطبيعة والأماكن التي تتشابه أسماؤها، كما تتشابه أسماء أبطالها، أو لأنها لم تخرج بعد من بوتقة الحرب العالمية الثانية وقنبلتي هيروشيما وناغازاكي، حيث يمتد الوجع طاغياً على حساب أي شيء آخر في السرد، وحينها كنت أفقد الرغبة بالقراءة، هروباً من قهرٍ موغل في واقعيته.

في هذه الرواية يتجلى وإلى حدٍّ كبير تأثر الكاتب بالآداب والفنون الأوروبية، حتى اسم البطل “كافكا” استعاره من الكاتب التشيكي “فرانز كافكا”، و جميل جدا تناوله وحدة الذات البشرية، بنوازعها وهمومها، بمخاوفها ورغباتها، فطبيعي أن يختلف شعب عن آخر، وثقافة عن أخرى في آلاف التفاصيل، إنما طبيعي جداً أن تجد نفسك في روح كل إنسان”وخلقناكم من نفس واحدة”.

والآن: يهرب الفتى ابن الخامسة عشرة من بيت أبيه في طوكيو، مستغنياً عن كل شيء، حتى عن اسمه الأول فيسمي نفسه”كافكا تامورا” وتلقفته الأماكن حتى وصل إلى مدينة ساحلية صغيرة، وراح يحتال على المبلغ الذي في جيبه، من أجل النوم والطعام، وأعجبه قضاء الوقت في مكتبة كيومورا التذكارية التي تعود ملكيتها لأسرة عريقة، غنية، مثقفة، رصدت المكتبة في حي منعزل من مدينة تاكاماتسو لكل من يرغب بالقراءة.. سرعان ما يتفهم الشاب الذي يشرف على قاعة المطالعة أن الفتى هارب، فيؤويه عنده بعد موافقة الآنسة ساييكي مديرة المكتبة، ويعطيه غرفة المستودع لينام فيها.. وهنا تبدأ التفاصيل الحلوة بالتزاحم، فسرعان ما ينتشر خبر مقتل والد الفتى “كافكا” ، حيث كتبت الصحف وبثت التلفزيونات، فوالده فنان مشهور، وانشغلت الشرطة بالبحث عن الفتى، ليس لأنه متهم، فقد غادر المكان قبل وقوع الجريمة بأيام، ووجوده في أماكن أخرى مثبت، إنما لمعرفة ملابسات حياة الفنان المشهور صاحب المزاج الغريب من ابنه.. كانت والدة الفتى قد غادرت بيت زوجها وحياته، مع طفلتها، منذ سنوات طويلة، ولم يعد الفتى يعرف شيئاً عن أمه، ولا أخته، كل ذخيرته المعرفية عنهما تتلخص في صورة قديمة تجمعه وأخته على الشاطئ.. عندما التقى الفتى، الهارب من لعنة أبيه ، الآنسة ساييكي، لأسباب خفية افترض أنها أمه، وفتش عن قرائن تدعم نظريته، وكذلك حين التقى الصبية الوحيدة الوارد ذكرها في الرواية افترضها أخته، فقد حنت عليه وهو الفاقد كلياً للحنان.. لذلك وجد حنانها بلا مبررات سوى أنها قد تكون أخته.. بالتوازي مع حكاية الفتى كافكا، تمضي حكاية الرجل العجوز ناكاتا الفاقد لنصف ظله، والذي كان طفلاً يتنزه مع رفاقه ومعلمته في الغابة، حين أسقطت طائرة حربية شيئاً ما مبهماً أدى إلى فقدانهم الوعي، لكنهم استعادوا وعيهم جميعاً ماعدا ناكاتا الذي كبر طفلاً، لا يعرف القراءة، وليس ذكياً كما يقول عن نفسه، ويستطيع محادثة القطط، و يأخذ معونة من المحافظ ليعيش.

تتداخل الشخصيات، والأحداث، في جو من الواقعية السحرية، وبعض الفانتازيا، والكثير من الفلسفة وثقافة الماورائيات.. وأكثر ما لفتني أن اليابانيين بشرٌ مثلنا وليسوا من ” كوكب اليابان” كما يقال على سبيل فرادة المجتمع الياباني في تقدمه، وتطوره؛ صحيح أن الجماعة هناك يختلفون عنا كثيراً، من حيث حرصهم على الممتلكات العامة ونظافتها، وحرصهم أيضا على البيئة، وكذلك تمتعهم بوجود غابات يطيب السير فيها، وشواطئ يتمشون على رمالها ليسمعوا صوت الأمواج.. إنما بشرٌ مثلنا، يحبون ويكرهون، يتسامحون ويحقدون، ويهتمون بالماركات العالمية، وتسرقهم الصرعات فيستمعون لأغاني الفرق الأوروبية والأمريكية، ويمعنون في الجنون فيرتكبون الجرائم، كما يمعنون في التروي والأناة حين يمارسون الرياضة، و اليوغا أو فن التأمل، وبعضهم يكره الشرطة.. ومن اللافت أيضاً أن كل شخصيات الرواية تطوي تحت الغلالة الخارجية هموماً شخصية، أشياء ليست قابلة للنشر على مبدأ المثل الشعبي القائل: “الأبواب مغلّقة…والهموم مفرَّقة”..

لعل الخطأ الأكبر في الرواية، هو تحميل الفتى المراهق أفكاراً وفلسفة بهذا العمق، وإن كان قارئاً نهماً، وإن كان عبقري الذكاء.. كذلك تقديمه كل الأبطال بمستوى ثقافي جيد، ربما أرهقهم به، حتى سائق الشاحنة يجيد الحديث و يقدر الفن، ويتذوق بيتهوفن.

مقتطفات:

– في مكان لا يهم فيه الوقت، تغدو الذاكرة أيضاً بلا أهمية.

– مهما كدست من أموال لا يمكنك أن تشتري الزمن.

– ما العالم سوى مجاز.

– كلٌ منا يفقد شيئاً عزيزاً عليه، فرصاً، إمكانيات، مشاعر لا يمكن استعادتها أبداً. كل هذا جزء من معنى كوننا نعيش، ولكن في داخل رؤوسنا نخزن الذكريات في غرفة صغيرة هناك، غرفة كالرفوف في هذه المكتبة… بكلمات أخرى “ستعيش إلى الأبد في مكتبتك الخاصة بك”.

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار