التضخم ملاريا الاقتصاد العالمي؟!
أ.د: حيان احمد سلمان:
يختلف الاقتصاديون حول التضخم فمنهم من يعرفه بأسبابه بأنه ( كتلة نقدية تطارد كتلة سلعية قيمتها أقل ) من خلال زيادة طباعة النقود وعدم قدرة الجهاز الإنتاجي مواكبة هذه الزيادة أي إن معدل نمو الكتلة النقدية أكبر من معدل نمو الإنتاج والإنتاجية، وعندها تكون قوى الطلب الكلي أكبر من قوى العرض الإجمالي، وتتكون فجوة بينهما وبموجبها ترتفع الأسعار بما يتناسب مع هذه الفجوة، ونعبر عنها هذه الفجوة التسويقية بالمعادلة التالية ( الطلب الكلي – العرض الإجمالي )، وبعض الاقتصاديين يعرف التضخم من نتائجه وبأنه ارتفاع في المستوى العام للأسعار من فترة لأخرى ، وهنا نقول ليس كل ارتفاع للأسعار هو تضخم مثل أسعار ألبسة الأطفال وبعض الخدمات والسلع الأخرى في الأعياد، وظهرت معالم التضخم الأساسية مع ظهور (اقتصاديات السوق) وتحديداً في بريطانيا، ومن ثم باقي الدول الأخرى أي منذ سنة /1300/ وتجسدت بآثارها المتعددة ومنها تراجع قيمة الدخول الحقيقية والإنتاجية و مستوى المعيشة وزيادة التوترات الاجتماعية …الخ.
وتتنوع أنواع التضخم أيضاً وبرأينا يوجد أربعة أنواع له وهي ( التضخم المقبول أو الزاحف) ويكون معدله لا يتجاوز /3%/ ويمكن السيطرة عليه والبعض يعتقد أنه يفعل النشاط الاقتصادي قليلاً لذلك يشبهونه ( بملح الطعام ) حيث ينعش الشهية، ولكن البعض يقول أنه يشبه ( كلب حراسة عجوز ) يحمي البيت فإذا أيقظته سيسبب لك الكثير من المشاكل بحركاته المفاجئة ويتجه نحو الأعلى ويرتفع إلى حدود /10%/ يصبح ( تضخماً منخفضاً Low Inflation )، وإذا لم يعالج يزحف بسرعة ليزداد معدله إلى أكثر من ذلك وعندما يصل إلى حدود /100%/ يصبح ( تضخماً مرتفعاً Cal loping Inflation) وفوق ذلك يتحول إلى ( تضخم الجامح Hyperinflations). وهنا تفقد النقود قيمتها الشرائية وتصبح تكلفة طباعتها أعلى من قيمتها الشرائية وترتفع الأسعار إلى أرقام فلكية، كما حصل في ألمانيا في عشرينيات القرن الماضي وتحديداً سنة /1922- 1923 / أي قبل /100/عام بعد إطلاق الحرية لطباعة البنكنوت المحلي من دون أي قيد أو شرط، ونتيجة ذلك ارتفع مؤشر السعر من (1 إلى 10 تريليون) كما ورد في كتاب ( علم الاقتصاد) للمؤلف الأمريكي ( سامو ويلسون) الصادر عن مكتبة لبنان (ناشرون ) سنة /2006/ الصفحة /707 / حرفياً( أن من كان يملك /300/ مليون مارك من السندات الألمانية في أوائل عام /1922/ لم يكن بإمكانه شراء قطعة من الحلوى بهذا المبلغ الضخم ) .
وبكل الأحوال فإن التضخم هو من الأمراض الاقتصادية التي تؤثر على المجتمع سلباً، ومن خلال متابعتي لموضوع التضخم تاريخياً توقفت كثيراً وأنا اقرأ الكتاب السابق المذكور حيث ورد حرفياً في الصفحة /703/ وعلى لسان العالم الاقتصادي الكبير (جون ماينارد كينز ) ما يلي [يقال إن (فلاديمير إيليتش لينين F.E.Lenin) في معرض هجومه المعروف على الرأسمالية تهكم ذات مرة بقوله إن أفضل السبل لتحطيم الرأسمالية هي طباعة المزيد من البنكنوت وإغراق الأسواق بها، الأمر الذي من شأنه إفساد النظام النقدي. فمن خلال تعزيز التضخم المتواصل، يمكن للحكومات مصادرة شريحة هامة من ثروات مواطنيها سراً ودون أن يعي ذلك أحد ] (انتهى الاقتباس) وبغض النظر عن الاتفاق أو الاختلاف مع ذلك من وجهة نظر سياسية فسأركز على تداعيات الاقتصادية للتضخم، وتتأثر به الدول والفئات الفقيرة أكثر من الغنية، وكأنه ضريبة يدفعها الفقراء لصالح الأغنياء، ويؤدي إلى تآكل المدخرات وتراجع الاستثمارات و الكفاءة الاقتصادية والقوة الشرائية للوحدة النقدية و زيادة أسعار الصرف..الخ ، ولذلك يقال ( إن التضخم كالملاريا يجعل الحياة كريهة)، والأسوأ من ذلك هو أن يترافق التضخم مع الركود ويتحول إلى ( الركود التضخمي ) كما حصل في الأزمة الاقتصادية العالمية سنة /1929/ واستمرت /10/ سنوات، وكان هذا من أسباب الحرب العالمية الثانية، وبرأينا أن العالم اليوم يشهد موجات تضخم لم يشهدها منذ /40/ سنة فكيف سيكون الاقتصاد العالمي سنة/2023/ وخاصة مع [ زيادة حدة التناقضات الدولية وتوليد أزمات جديدة وارتفاع أسعار الأغذية والتدفئة وحوامل الطاقة والألبسة والأدوية والسكن وأسعار الفائدة ومعدل البطالة ومشاكل البيئة والتصحر وملوحة الأرض وجرف التربة والفيضانات والأعاصير والخدمات وتكلفة الإقراض وزيادة الديون المعدومة وتراجع الاستثمارات والخدمات المصرفية وأسعار الأسهم والعقارات وزيادة حالات الإفلاس وتراجع سلاسل الإمداد والتجارة الخارجية إدارة الأعمال …الخ ].
وتستمر لعنة موجات التضخم العالمية بدليل أن المؤسسات الاقتصادية الدولية بدأت تحذر من تداعياته ، فمثلاً أشار كل من السيدة ( كريستينا لاغارد ) رئيسة البنك المركزي الأوروبي و السيد (جيروم بأول) رئيس مجلس الاحتياطي الاتحادي الأمريكي والسيدة (كري ستالينا غورغييفا) رئيسة صندوق النقد الدولي وغيرهم إلى أن ( الأسوأ لم يأتِ بعد) وأن عدد الجياع في العالم زاد في سنة /2022/ بمقدار /70/ مليون جائع !، فهل يكفي أن نفسر الوضع الاقتصادي العالمي المأسوي الحالي لتداعيات الحرب ( الروسية الناتوية الأوكرانية )؟! والواقع يدحض ذلك لأن مؤشرات التضخم بدأت منذ سنة /2020 أي قبل هذه الحرب بسنتين ؟!، وهنا لا أقلل من أهميتها ولكن التأزيم الاقتصادي العالمي مرتبط بالاستغلال والعنجهية الغربية وتمركز رأس المال ويكفي الاقتصاديين والسياسيين الليبراليين تمويهاً للحقائق الاقتصادية الموضوعية من خلال تقاذفهم للتهم، وقناعتنا أن الدول الغربية ستحاول كعادتها مواجهة مشكلة التضخم من خلال تصديرها للدول الأخرى أي ( تصدير التضخم ) كما فعلت سابقاً؟!، لكن هذا غير متاح لها لأن العالم تغير بتواجد قوى اقتصادية منافسة لها ( الصين وروسيا والهند …الخ ) ، أم ستتلاعب بأسعار الفائدة لحماية عملاتها كما فعل البنك الفيدرالي الأمريكي والبريطاني والمركزي الأوروبي لإعادة تركيز رأس المال في مصارفها وهذا سيؤدي إلى تراجع الاستثمارات وبالتالي الوقوع في مطب الركود الاقتصادي؟ أم ستتنازل عن ( برجها العاجي ) وتقتنع أن معالم نظام عالمي جديد يتشكل على أعقاب الحرب الحالية وسيترسخ بعد عودة
( تايوان للصين ) ؟ أم سيتوجه العالم إلى حرب تجارية وعملات ويتم التوجه نحو ( الذهب ) كملاذ آمن بدل الدولار واليورو وقد تظهر عملات دولية أخرى ؟!، وكل هذا يؤدي إلى أن عصر القطبية الأحادية انتهى وقد تكون زيادة الأمراض الاقتصادية أحد العوامل المساعدة بذلك ، ويجب أن نعود إلى جوهر علم الاقتصاد القائم على العمل وليس الإرهاب الاقتصادي وترسيخ معادلة ربط الكتلة النقدية بمعدل النمو الإنتاجي ومصدره الإنتاجية ووفق المعادلة التالية [معدل التضخم = معدل نمو الأجر / معدل نمو الإنتاجية] وفي هذه الحالة يقل تأثير زيادة السعر لأنه يقابلها زيادة في الإنتاج تعادلها، وكم نحن في سورية بأمس الحاجة إلى ذلك ونقطة البداية من زيادة كفاءتنا الاقتصادية ومنظومتنا الإدارية وتحرير ثرواتنا في بلدنا بشكل عام وفي جزيرتنا الحبيبة التي تضم أكثر من /58%/ من ثروتنا الوطنية وفك ارتباطنا مع الغرب المتهاوي وزيادة التوجه شرقاً وخاصة من ناحية التكامل الاقتصادي.